بقلم: عفاف خلف
ما الذي يصنع أمة؟ يدمغها بطابعه، فتُضحي بصمةً!
ثمة العديدِ من المجالات التي يلمع من خلالها نجم أمة، فتبرقُ ساطعةً من بين الأمم، الصناعة، الزراعة، الفلك، الثروات الطبيعية والإنسان. الإنسان بما ينتجه على صعيدٍ إبداعي فيجلو واقعه. ولقد خسرنا الجغرافيا وبذا خسرنا كل المقومات التي كان لابد أن نلمعَ من خلالها نجماً ثاقباً. وخسرنا تلك البقعة التي تضمنا بين جنباتها شعباً، فكان التشظي حين شُردنا على أربعة أقطاب الأرض. فماذا تبقّى لنا؟ يقول غسان كنفاني في روايته ما تبقى لكم على لسان أحد أبطاله: “ما تبقى لكم. ما تبقى لي .حساب البقايا. حساب الخسارة. حساب الموت. ما تبقى لي في العالم كله: ممر من الرمال السوداء، عبارة بين خسارتين، نفق مسدود من طرفيه”.
لذا كان لابد من الثورة. وكانت الثورة مملكةً عمادها الإنسان، بناؤها الإنسان. لذا كان على الإنسان أن يخرج من جحيم «الساعة / الذكرى» التي تحتجزه إلى جنة «الفعل» والكينونة، وتعرية الزمن كما عّرى حامد معصمه من «الساعة/القيد»، «الساعة/ النحس» التي قيّدته بعجزه. وكان الأدب الفلسطيني بما يحويه من شعرٍ ونثر، من قصةٍ وروايةٍ ودراسة عامل أساس لا على التثوير فحسب، بل واجتراح معجزة تثبيت المشهد الفلسطيني، ومد جسور التواصل بين الأمة كشعب، وبين الشعب كثقافةٍ وبصمات. عدا غرس بذور الوعي، وكان لسان حاله يقول: لا أعدّك بجنّة ولكن أعدّك بوعي، بعودةٍ إلى رحم الحياة التي تُعيد ولادتنا عشرات المرات، وكل مرةٍ تعني غرساً لوعي. فما الذي جلى ويجلو مشهدنا الفلسطيني سوى أدبٍ استطاع النفاذ إلى قلوب، ملايين البشر فتركَ بصمته وما زال يطبع بصماته.
ما هو الرديف الذي يتبادر إلى الذهن حين يُذكر الأدب الفلسطيني سوى ما نحت كاتبٌ على ضفاف الوطن، على أدبٍ دمغ ثورات العالم قاطبةً بتجربته. فكان المفتاح «مقاومة». لو أردنا الحديث عن الأدب الفلسطيني ما قبل أوسلو للمعت عشرات الأسماء التي انتزعت لها مكاناً لا على صعيد الوطن وحسب، أو على صعيد عربي فحسب، بل وعلى صعيدٍ عالميٍّ أيضاً، فما الذي تغيّر؟ ما الذي حدث لمبدعينا كتّاباً ورسامين، أدباءً وشعراء، نقاداً وروائيين؟.
في رائعة شكسبير الملك لير يُقرر الملك التخلص من مملكته بالتقسيم، رداً على سؤالٍ أراده اختبار النار فكان أن احترق. وفي سؤال أوسلو وقعت أنقاض الخرائط والسياسة فوق الرؤوس، فوق مملكةٍ بنّاها الرسامون، الأدباء، الشعراء، الكتّاب، المثقفون، النقّاد فكان التشظي. كلٌ يحمل كسرةً من وطنٍ لا ليلصقها برسمٍ يُعيد « هويتها « فتصعد ثقافةٌ وطنية تحمل ملامح أمة وهموم شعب. بل كسرةً في ثناياها الكسر الذي حدث في وعينا حين خسرنا الحلم. حين خسرنا ما بناه البناؤون الأوائل بمعاول الشعر والرسم والأدب والأبرة، فتم الانسحاب.
رسموا فأبدعوا، كتبوا وكان الخلود، وكان الوطن ملهمهم.
أخجل إذ أقول: وطن.
فتلك الجغرافيا “المتشظية” ليست بوطن، وحده الشعب المسرج وعياً يُضيء، ولا ورثة للأنبياء في وطني سوى انسحابٌ إلى عوالم «الذات»، وفضاء «الأنا» التي تحمل مرآة نرسيس، أولئك الورثة، هؤلاء المثقفون.