الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"مقياسُ وسلَّم التَّطَوُّر الحضاري.. نحنُ والشَّرقُ في عُيونِهم". بقلم: رائد دحبور.

2016-05-15 09:06:55 AM

" هذا ما قرَّرَهُ الآلهةُ الخالِدونَ، وأَصدَروا بِهِ قانونَ مجلِسَهُم التَّشريعي الخالدْ !! ".

هكذا كتَبَ الرِّوائي والأديب والنَّاقد الاسكوتلاندي ( توماس كارلايل 1795م- 1881م ) في أحد مقالاته ولدى  تناوله لإعادَةِ التَّقييم المُفَخَّمَة للحياة الرُّوحيَّة الإنجليزيَّة في الماضي والمستقبل، فنقديَّات كارلايل الحيويَّة عن إنعاشِ بريطانيا وإيقاظِها لتنتبه إلى قيمة العمل، والرَّوابط العضويَّة، وحبّ التَّطوُّر الصِّناعي والرأسمالي غير المحدود لَمْ تُفْلِح في نفحِ الحياة في شخصيَّة " كواشي " وهو الزِّنجيُّ الأسود المُجَسِّدُ لعرقِهِ – لدى كارلايل - الَّذي حُكِمَ عليه بالبشاعَةِ والخمول والتَّمرُّد على الحداثة، وهكذا حُكِمَ عليه وعلى عرقه بأن يبقيا إلى الأبد في مقامٍ تحتَ إنسانيٍّ. وكارلايل صريحٌ إزاءَ هذا الأمر في مسألة الزُّنوج، إذْ يكتب بأسلوبه النَّقدي المُتَّسِمِ بما يبدو مسحَةَ دينيَّةَ ما ورائيَّة :

" كلَّا إنَّ الآلهةَ يشاؤون أنْ تنموا التَّوابل والمحاصيل الثَّمينة إلى جانبِ نبتة القرعِ المُفضَّلة لدى الزُّنوج في جزر هِنْدِهِمُ الغربيَّة – جزر الهند الغربيَّة – هذا قَدَرٌ ما أعلَنته الآلهة إذْ خلَقَتْ جزر الهند الغربيَّة كذلك، لكنَّهم يشاؤون أمراً آخر مشيئةً لا حدود لها، وهو أنْ يحتَلَّ رجالٌ دؤوبون هندهم الغربيَّة، بديلاً عن بقَر على ساقَيْن – في إشارةٍ إلى الزُّنوج !! – كُسالى أيَّاً بلَغَتْ غِبْطَتَهُم بِقَرْعِهِمُ الوفير. وبوِسْعِنا أنْ نكونَ على يقينٍ من ذلك، أنَّ كلا الأمريْنِ، قد قرَّرَهُ الآلهةُ الخالِدون، وأَصدَروا به قانون مجلسهم التَّشريعيّ الخالد، وكلاهما سيتمُّ تنفيذه، رغم أنَّ المجالس التشريعيَّة والكيانات الأرضيَّة تُعارِضْهُما ".. إلى هنا كلام – توماس كرلايل – الثَّقافة والإمبرياليَّة لـ - إدوارد سعيد – الفصل الثَّاني ص 167 منشورات دار الآداب – بيروت 1997.     

على ضِفافِ حركة المجتمعات الصِّناعيَّة الأوروبيَّة في أعقابِ عصر النَّهضة في مطلع القرن التَّاسع عشر نَمَتْ كثيراً من المعارف والعلوم المرتبطة بحركةِ التَّوجُّهات الاستعماريَّة - الما وراءِ بحريَّة - خارج القارَّتيْن الأوروبيَّة والأمريكيَّة؛ وذلك لدراسة المجتمعات المُستَهدفة بالحركة والأطماع الاستعماريَّة بشكلٍ منهجيٍّ، وتحديداً تلك المجتمعات الشَّرقيَّة الآسيَوِيَّة والإفريقيَّة وخصوصاً مجتمعات المنطقة العربيَّة منها، وقد أتى ذلك أيضاً ضمن وفي مِرْوَحَةِ المفهوم والتَّصَوُّر القديم المُسْتَحاثُ تاريخيَّاً – إغريقيِّ المنشأ أصلاً منذ القرن الثَّالث قبل الميلاد – والَّذي سادَ في عمومِ أوروبا عن مُجتمعات البرابِرةِ والمجتمعات الشَّرْقيَّة الَّتي لا تَقرأ ولا هي تعرف، والموجودة خارج القارَّة الأوروبيَّة بطبيعة الحال.. من هذه العلوم المعرفيَّة عِلْمَا الأنثروبولوجي – الدِّراسات الإنسانيَّة – وعلم الأعْراق الوصفي.

عُنِيَ منهج البحث الأنثروبولوجي – أو علم الإنسانيَّات - بدراسةِ الإنسان ليسَ بوصفِه كائناً فسيولوجيَّاً وفيزيائياً مُفرداً أو فرداً مُنْفَصِلاً عن بيئته الجماعيَّة، بل بكونِهِ جزأً من منظومة ثقافيَّة وحضاريِّة تتضمَّن تأثيرات الثَّقافة الدِّينيَّة والتربويَّة ذات السِّمات الخاصَّة، وكذلك طبيعة العادات والأعراف والبُنى الاجتماعيَّة والسِّياسيِّة السَّائدة، والفنون والآداب الَّتي تنْتِجُها المجتمعات المختلفة ضمن ظروفها المخصوصة وبيئتها الخاصَّة، وكذلك أنماط الإنتاج الماديِّ والاقتصاديِّ الخاصَّة بتلك المجتمعات.

كما عُني منهج علم الأعراق الوصفي بتصنيف المجتمعات البشريَّة إلى أصولٍ وتفرُّعاتٍ عرقيَّة مختلفة ومُتفاوتة من حيث قابليَّة التَّطوُّر الفسيولوجي من حيث الصِّفات والعلامات الخَلْقيَّة الفارقة، والنَّفسي الشَّخصاني من حيث التكوين الوجداني والمعنوي، والمعرفي من حيث القدرات العقليَّة والإدراكيَّة، وكلُّ ذلك على أساس الاصل والتَّفرُّع الجيني – والأندريجينتي أو الوراثي من حيث عوامل التأثير الحاسمة وراثيِّاً –  ذو التأصيل العرقي وذو الدَّلالات الَّتي يفرِضُها التَّنَوُّع العِرْقي بتأثيرٍ من مبدأ الانتخاب الطَّبيعي الَّذي يُسْهِمُ تكوين وتفرُّع الأعراق وتطوُّرِها على أساسٍ من ثقافَةٍ ومفاهيم أنطولوجيَّة – بمعنى وجوديَّة وتكوينيَّة منذ الأساس . وقد تمَّ الإشارة في دراساتٍ حول الأفكار العرقيَّة لكلٍّ من " جاي غولد " و " ونانسي ستيبان " على سبيلِ المثال، بقوَّة تأثير الأفكار العرقيَّة في عالم الإكتشافات، والممارسات، والموسَّسات، العلميَّة في القرن التَّاسع عشر، وأخذ ذلك كمسلَّمة ثقافيَّة استنتاجيَّة تجريبيَّة غربيَّة دونما اعتراض على مستوى المراجعة والنَّقد الثَّقافي والأدبي الأوروبي. بل إنَّنا نجدُ أنَّ مسألة تناول مفهوم التمايز والتَّفوُّق العرقي قد تجلَّتْ فيما يشبهُ امتلاك الأوربيين دليلاً مباشِراً قاطِعاً على وجودِ أنواعٍ بشريَّةٍ منحطَّةٍ تعيشُ في عوالم أخرى ما وراء البحار في غير القارَّة الأوروبيَّة !!.

واسترشاداً بنتائج التَّصوُّرات الَّتي أفضَتْ إليها الدِّراسات التَّاريخيَّة الَّتي تناولت سياق التَّطور الزَّماني الحضاري والمدني أو التَّمَدُّني للحياة البشريَّة وتقسيم ذلك السِّياق إلى خمسةِ مراحل أساسيَّة هي: البدائي والزِّراعي والصِّناعي والتِّكنولوجي والمعرفي – أو مرحلة التَّميُّز والتَّفوُّق المعرفي والعلمي – فقد تمَّ تصنيف حركة تطوُّر المجتمعات ومكانَتِها وتموْضِعِها ضمن مناطق جغرافيَّة متمايزة وضمن مراحل زمنيَّة متفاوتة

على هذا الأساسِ تمَّ رَسمُ مقياس التَّطوُّر المعياري بالنِّسبَةِ للمجتمعات وفق تصورات وعلى هَدْيِ منهج البحوث الأنثروبولوجيَّة الغربيَّة، بحيثُ أُعْطِيَتْ أوضاع المجتمعات الأوروبيَّة الثَّقافيَّة والمعرفيَّة والعلميَّة والصِّناعيَّة والإنتاجيَّة والعلائقيَّة والحضاريَّة والأصلانيَّة العرقيَّة بشكلٍ عام، علامة مئة على سلَّمِ التَّطَوُّر كمعيارٍ أعلى يتدفَّق نحو الأمام نموَّاً مُضَّطَرِداً صاعِداً، فيما أُعْطِيَتْ المجتمعات الشَّرقيَّة الآسيويَّة والإفريقيَّة علامةَ صفر أو تقترب دُنُوَّاً من الصِّفر كقيمة مطلقة على تدريج المقياس، بحيثُ تبقى تُمِثِّلُ القيمة الدُّنيا معياريِّاً على الدَّوام.

وهذا المقياس أو السُّلَّم المعياريّ يبدأ وفق ذلك المنهج في الدِّراسة والتَّوصيف من درجَةِ صفر للمجتمعات الواقعة في مرحلَةِ ما قبل الصِّناعة – إبَّان القرن التَّاسع عشر – وينتهي بدرجة مئة، نهاية السُّلَّم، للمجتمعات التي كانت قد تجاوزتْ مرحلة الصِّناعة منذ ذلك الوقت.. وبمعنىً آخر، فإنَّ هذا السُّلَّم ينمو صعوداً فيما يتزايد الفرق بين درجاتِه مع استمرار النُّمو الصَّاعد. ويتمُّ قياس مُختلف النَّماذج الثقافيَّة والاجتماعيَّة والحضاريَّة غير الغربيَّة على قاعدة المقارنة بينها وبين درجة مئة – التي تحتلُّها أوضاع المجتمعات الغربيَّة بكافَّة تجلِّيات نشاطاتها الثقافيَّة والمعرفيَّة والاخلاقيَّة والتكنولوجيَّة والإنتاجيَّة - على السُّلَّم.

ولإنْ تجاوزت بعض المجتمعات الشَّرقيَّة قيمة الصِّفر على السُّلم صعوداً إلى درجاتٍ أعلى؛ فإنَّ درجة أو مكانة المئة تكونُ قدْ صَعَدَتْ مزيداً فارِقاً نحو الأعلى في ذات الوقت، وهذا ما يُعبِّرون عنه بالفجوة الحضاريَّة والتكنولوجيَّة المتزايدة مع مرور الزَّمنْ، بحيث تُسَخَّرُ غربيَّاً – أمريكيَّاً وأوروبيَّاً - كل عوامل القصور الذَّاتي لدى المجتمعات الشَّرقيَّة والجنوبيَّة، وكل عوامل ومفاعيل وتأثيرات الإلحاقِ والهيمنة في سبيلِ إبقاءِ هذه الفجوة مُتَّسِعة مُتزايدة !!.