بقلم: هارون يحيى- مفكر إسلامي تركي - خاص بالحدث
الاقتتال، والحروب الأهلية، والنزاعات المسلحة، وتدمير المدن، والأزمات السياسية، والاختلافات الاجتماعية، والمذابح والتفجيرات وأعمال الشغب والارهاب وغيرها الكثير، هذه هي المصطلحات التي تلخص حالة جمهورية لبنان بتاريخها القصير، والتي وجدت عام 1943؛ وبكلمات أخرى، وبعد ما يزيد على الـ400 عام من السلام والاستقرار تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، أصبح الحزن والأسى والدم جزءا أساسيا من التاريخ والواقع اللبناني.
وأستثني من هذه الصورة فترة قصيرة جداً عم فيها السلام في لبنان، بحيث أصبحت تعرف عاصمتها بيروت بـ “باريس الشرق الأوسط”، أما باستثناء هذه الفترة، فإن مجرد ذكر لبنان بتاريخها الحديث يدعو للحزن والأسى على ما حلًّ بها. تمتاز لبنان بعدد من العوامل التي زادت من أهميتها وتميزها، منها موقعها الجغرافي الذي يعمل كحلقة وصل ما بين البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى تاريخها الثري، وتراثها المشرق على مر الحضارات المختلفة، وشواطئها الممتدة على طول 300 كم، وأراضيها الخصبة، ومواردها الجوفية الثرية، والتعددية العرقية الغنية والتنوع الثقافي؛ ولكن، وبالرغم من كل هذا، فإن اسم لبنان أصبح مرادفاً لفكرة العنف والأحداث المؤلمة.
ومع تراجع الإمبراطورية العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت المشاعر القومية بالانتشار في الشرق الأوسط، والتي كانت تتغذى وتنتشر بسبب الخلافات بين المجموعات المختلفة بناءً على المعتقدات الدينية، مما أدى إلى فقدان الاستقرار والسلام اللذان سادا المنطقة لفترة طويلة، مما لفت انتباه والنظرة الجشعة للقوى الاستعمارية التي طمعت بموارد الشرق الأوسط، فقرعت طبول الحرب وعم الدمار.
تاريخ لبنان الحديث: قصير ودموي
عرفت الحرب الأهلية في لبنان، والتي امتدت من عام 1975 وحتى عام 1990، بأنها واحدة من أكثر الحروب الأهلية دموية وخراباً ودماراً في التاريخ، وقد شاركت أطراف فاعلة في لبنان في هذه الحرب الأهلية، حيث شملت منظمة تحرير فلسطين وسوريا وإسرائيل بالإضافة إلى عدد من الجماعات الدينية في لبنان، وقد حصدت هذه الحرب أرواح ما يفوق الـ 150 ألف شخص، كما وتسببت بإصابة 350 ألف آخرين وتشريد ما يزيد عن المليون. ومع الأخذ بعين الاعتبار بأن عدد سكان لبنان لا يزيدون عن الـ 4 مليون نسمة، تصبح هذه الأرقام أشد وقعاً وتأثيراً.
كما أدت هذه الحرب إلى تدمير بيروت بشكل كامل، مما تسبب بأضرار تقدر بالمليارات، محولة أجزاء كبيرة من المدينة إلى مدن أشباح.
وقد تكون إحدى أكثر الذكريات الأليمة والوحشية التي ميزت الحرب الأهلية في لبنان هي مجزرة صبرا وشتيلا، حيث تم ذبح الآلاف من الأبرياء في مخيمي صبرا وشتيلا في شهر سبتمبر من عام 1982، وكان معظم من قتلوا في هذه المجزرة هم من النساء والأطفال والمسنين. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، تم اغتيال العديد من القيادات والوزراء وقادة الأقليات في لبنان، مما ساهم بإشعال الفتنة والحرب بشكل متزايد والتي واظبت على الاشتعال وإحراق البلد وزيادة الرعب وحالة الفوضى. كما وساهم التوتر ما بين منظمة تحرير فلسطين وحزب الله مع إسرائيل بدفع إسرائيل إلى احتلال جنوب لبنان، ودفع بالمزيد من الهجمات والتوغلات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي اللبنانية.
وقد ساهمت كل هذه الأحداث المحزنة بتشكيل لبنان على ما هي عليه اليوم، ولكنها فشلت في الوصول واستخلاص الاستنتاجات الصحيحة من جميع هذه الأحداث المقلقة في الماضي القريب، حيث ما تزال المشاكل والتوتر ما بين المجموعات اللبنانية المختلفة مستمراً، كما يستمر الغضب والكراهية المتجذرة بين اسرائيل ولبنان، مما قد يدفع الشخص إلى توقع وجود احتمالية عالية لإعادة أخطاء وأحداث الماضي المؤلمة، حيث قد تستطيع أي استفزازات مدفوعة من جهات تمتلك أجندات خفية إلى دفع لبنان إلى المزيد من النزاعات والصدامات الدموية والدمار والخراب.
أسباب المشكلة
هنالك سببان رئيسيان لجميع المشاكل في لبنان: يتمثل السبب الأول في الخلافات الاجتماعية والنزاعات الناتجة عن طبيعة تركيب لبنان. ويكمن السبب الثاني في علاقة لبنان مع كل من إسرائيل وسوريا. يمتاز المجتمع اللبناني بأنه مجتمع فسيفسائي مكون من عدد من المجموعات ذات الخلفيات الدينية المختلفة، وبالرغم من عدم إجراء أي نوع من التعداد الرسمي منذ عام 1932 في لبنان، ولكن من المتعارف عليه أن عدد المسلمين قد ازداد بسبب الهجرات والتغيرات الديمغرافية التي طرأت على المنطقة بسبب الحرب الأهلية في لبنان، حيث أن اللاجئين الفلسطينيين والسوريين أصبحوا من المواضيع الإطارية الدائمة في وسائل الإعلام العالمية. ويمثل المسلمون ما يقارب الـ %60 من سكان لبنان، إلا أنهم ينقسمون إلى قسمين رئيسيين: الشيعة والسنة، حيث تمت الجماعات الشيعية بالولاء والدعم لإيران ويتلقون الدعم بالمقابل من إيران، بينما يتحالف السنة عادة مع الدول العربية. أما المجموعة الكبيرة الثالثة في لبنان تتمثل في المسيحيين الذين يمثلون ما يقارب ال%30 من السكان، والذين دائماً ما حافظوا على علاقات وطيدة مع المجتمعات الغربية لعدد من القرون، كما ينقسم المسيحيون في لبنان إلى عدد من الطوائف. أما ما تبقى من السكان فهم منقسمون ما بين عدد من الأقليات كالدروز والأرمن والأقباط.
العلاقات ما بين سوريا ولبنان وإسرائيل
لطالما نظرت سوريا إلى لبنان على أنها امتداد لنفوذها ومن مناطقها الداخلية، ولم يمتنع النظام البعثي السوري أبداً عن التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، حيث طالما قام بالمحاولات الماكرة لفرض سيطرته وتأثيره على لبنان عن طريق تخطيطه للأحداث السرية والعلنية، والتي امتازت بالعادة بدمويتها، من أجل تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
أما الدولة المجاورة الأخرى التي لعبت أكبر دور في تاريخ لبنان الحديث هي إسرائيل، حيث أنهما، ومنذ عام 1984، لطالما كانوا بحالة حرب دائمة ولا يوجد أي نوع من العلاقات الرسمية بين الدولتين، بينما تتجذر الكراهية والحقد بينهما. بعد عدة قرون، ما يزال أبناء الرسول إسماعيل وأبناء الرسول يعقوب في قتال مستمر على الأرض، بالرغم من وجود أراض تكفي الجميع في الشرق الأوسط، حيث أصبحت أرض سيدنا إبراهيم مسرحاً للإقتتال الدائم بين أحفاده. وقد أصبح من الواضح بأن انتشار مشاعر السلام والحب والوحدة والأخوة في كل من لبنان وإسرائيل وسوريا سيخدم الشرق الأوسط بشكل كبير، ولهذا، فلا بد لمعتنقي الديانات الإبراهيمية الثلاثة والذين يؤمنون بالله والذين يؤمنون بالمبادئ الأخلاقية ذاتها ويتشاركون بثقافات وأذواق متشابهة، من التكاتف والتجمع على مبادئ المحبة والإحترام والتفاهم والتعاون. علينا نبذ جميع خلافات الماضي القائمة على الكراهية والألم والغضب، ففي هذه الحالة فقط يمكننا بناء محيط من الصداقة وتحقيق الديمقراطية وحرية المعتقدات والإيمان، مما سيساهم بنهضة علمية وفنية غير مسبوقة والوصول إلى الصداقة والشراكة ما بين الشرق والغرب.