قبل أسبوعين تقريباً، أنقذ ابني ياسر قطة حديثة الولادة من شوك كانت قد علقت فيه ولم تستطع أمها إخراجها منه. وترك ياسر القطة مكانها حتى يتسنى للقطة الأم التي هربت خوفا منه أن تعود لصغيرتها وترعاها. وفي اليوم التالي، صادف ياسر ذات القطة وآلمه أنه وجدها وقد فقدت القدرة على الحركة بعد أن تعرضت كما يبدو للأذية المتعمدة من آدمي فقد إنسانيته. فما كان بابني إلا أن أتى بالقطة وأطعمها وحاول أن يطببها وهي الآن في بيتنا تتعافى وتنسج علاقة مع أفراد الأسرة الذين تقبلوها كما هي. وهذه ليست أول مرة يصادف فيها ابني ذو الأحد عشر عاما أطفالاً أو كباراً يتلذذون في تعذيب حيوان لا حول له ولا قوة أو صغير مستضعف استقوى عليه من هم أكبر منه.
يكثر في مجتمعنا الحديث عن الرحمة والإحسان والإيمان وغيرها من الفضائل. لكن الواقع الذي نعيشه يبرهن أن هذه الأحاديث العاطفية هي للاستهلاك ولا تترك أثراً في النفوس. فالاستقواء على الضعيف بالقوة تارة وبالدجل تارة أخرى بات سمة مؤسفة وواضحة المعالم في حياتنا الاجتماعية والسياسية.
أبناؤنا يقرأون في كتبهم أن امرأة كسبت الجنة لأنها أطعمت قطة لكنهم وفي ذات أروقة المدرسة التي يتعلمون فيها درس الرحمة هذا، يتعلمون أيضا أن البقاء فقط للأقوى وأن الأطفال سينقضون على أي زميل أو زميلة إذا ما أظهروا أي علامات ضعف أو حساسية. ويتعلمون أيضا أن القوي ينجو بفعلته لأنه سيتخذ من أصحابه و"شلته" سنداً في أي مواجهة جسدية أو معنوية.
ثم يرجع الأطفال إلى الحي فيشاهدون الجار الوقح ينجو بأفعاله لأن باقي الجيران لا يريدون أن يشتبكوا مع شخص لا يأبه بآداب الجيرة فلا يراعي نظافة العمارة ويستبيح مصفات الآخرين ويعمل ما يحلو له ويريحه غير آبه بمشاعر الآخرين الذي يفسر أدبهم على أنه ضعف.
ولا تقف الأمور عند الجار المستبد، فأطفالنا يرون كيف أن هناك من يتعرض للمسائلة من قبل شرطة المرور لمخالفته قوانين السير وهناك من يسير في الشارع عكس السير ويقطع الاشارة وهي حمراء ويعيث في الطرق فسادا لأنه يعرف أن الشرطي الفلسطيني لا يستطيع مخالفته لأسباب غير مفهومة أو مبررة لدينا جميعا.
ويكبر الصغار ويبدأون بالاستماع إلى خطابات السياسيين الذين لا يساءلون عما أنتجوا أو حققوا ولا يساءلون عما أنجزوا من برامجهم السياسية التي لا يأبهون حتى في تحديثها أو تفسيرها للمجتمع، مكتفيين بخطابات وبيانات مثقلة بالشعارات ومفرغة من المحتوى. فصائلنا العتيدة تملأ الدنيا شعارات وحكماً ورايات تغيب عنها صورة الوطن وعلمه وتتقن فن الجكر على حساب الوطن وتنفق من أموال الشعب باسم التاريخ الحافل والحاضر الباهت.
أما نواب مجلسنا التشريعي، فيتقاضون رواتب ومخصصات من قوت الناس وكدها رغم أنهم فشلوا في تطبيق كل شيء وعدوا الناخب به قبل عشر سنوات ولم يصونوا القسم الذي تلوه على الملئ أن يكونوا ممثلين للشعب وحافظين لأمانة الدفاع عنه. نواب لم يشرعوا إلا تغيير التوقيت عندما اجتمعوا ولكن لا زالوا يعتبرون الأموال والصفة هذه حقوقاً.
وحكومتنا العتيدة ليست بمعزل عن منطق الاستقواء أينما وكيفما أمكن تطبيقه. فباسم مصلحة المواطن ترفع الرسوم وتحاصر الحريات وتلاحق الحقوق وفي ظل وضع اقتصادي يصفه الخبراء في كل الكون بالمستعصي والصعب، تدشن أكبر حملة تحصيل ضرائب من المواطنين والشركات الصغيرة وتبرهن في كل أزمة انسلاخها عن واقع الضعفاء والمهمشين في المجتمع.
وفي قطاع غزة المخطوف والرهينة، من لا يموت من شبابنا قهراً تُقتل روحه من البطالة والقمع وتفنى العائلات حرقاً، بينما تُحصَل حماس خاوات من الناس تسميها ضرائب. وتغرق الحياة في غزة في الظلام بينما الأنوار في مملكات الحاكمين بأمر السلاح فوق الأرض وتحتها لا تنطفئ. في غزة، يطلق الخاطفون حملات تشهيرٍ وتشويه حول أزمة الكهرباء، متجاهلين معرفة المواطن أن مقرات الخاطفين ومبانيهم لم تدفع قرشاً بدل الكهرباء منذ عقد من الزمن.
ويحتفل الدجالون هناك بتبرعات دجالين مثلهم لبناء جوامع ضخمة وفارهة بملايين الدولارات بينما عشرات الآلاف ممن فقدوا منازلهم لا يزالون بدون مأوى أو مسكن كريم. وفي غزة أيضا، يتقاضى من وصل الى البلدية بالانتخابات يوما لخدمة الناس رسوماً من المواطنين مقابل لقائه! وفي غزة أيضاً، تمنع السلطات الفعلية محطة من العمل لثلاث سنوات تحت تهديد السلاح ثم تستنكر وتشجب قيام المحطة بفصل موظفيها في غزة وإغلاق مكتبها نتيجة إصرار تلك السلطات على استمرار الإغلاق!
وهكذا تكتمل الصورة ويفسر المثل الشعبي القائل: القوي عايب.