اللوحة الأولى
" في الحانة "
هناك مدنٌ كالنساء، حين تتعرى ليلاً تبهرك في اللحظة الأولى، ثم تصبح مألوفة جداً.وهناك رجالٌ كالمدن حين ينتصف خريفها، ولو سَطعت عليها الشمس وكَست أشجارها، فلن تكترث الأوراق الساقطة بدفئها.
كانت بيروت تلك الليلة إمرأة تتعرى أمام موقد نار، دون أن تستمعَ إلى صوت البَرَد الذي تقذفه الريح فيبددُ سكون الليل، وكل الدفء الذي قد تُلهبه كؤوس النبيذ لن يستطيع أن يبدد البَرد الذي يسكن ضلوعها والأعماق
حين تكون الطبقة الجليدية في الداخل تحتاج إلى زلزالٍ كبير كي يفتتها، يتَّبعه بركان ليتمكن من إذابتها من المدى الجواني الشاسع المنحوت فينا.
الحانة المنحوتة في التجويف الصخري تُلهِمُ عقلك بخيالات عدة.
ما اسم أول إمرأة رفعت كأس الرغبة في هذا التجويف الصخري المفتوح على الماضي السحيق؟ لو كتبوا تاريخ الحانة في إحدى زوايا الرّغبة لوفروا عليّ الكثير من التساؤلات "همس لنفسه" تباً، ما فائدة التاريخ في حانة للسكارى ؟ّ!أخذ يضحك لوحده، اتسعت ضحكته دون أن يخشى أن يتهمه أحد بالجنون.
الحانة هي المكان الوحيد الذي قد تضحك أو تبكي فيه بلا سبب دون أن يسألك أحد ٌ وهو يزُمُّ شفتيهِ متعجباً:
- مابك ؟!
الحانةُ هي المكان الوحيد الذي تستطيع أن تكون فيه مبهمًا.
عُريٌ في عُري، المساحاتُ المفتوحة على بعض تفقدك متعة الاكتشاف، التضاريس التي تحمل نفس اللون تفقدك لذة النظر إليها.
ما أجمل المستور، " قال في نفسه "وهو يتركُ سيلاً من الأجساد التي تعرت غير مكترثة بغضب الطبيعة خارج التجويف الصخري يتماوج بحركاتهِ البهلونية المختلفة ليكونَ بؤرة للعيون الجائعة في هذا البرد القارص ،ويحاولُ أن يمضي بذاكرتهِ حيث لكلِ بقعة لون ولغة وحياة .
رفعت له سيدة كأسها، دون أن تلاحظ أن كأسهُ فارغة.
- كأسَ نبيذ " قال للنادل الذي يقابله"
بيروتُ هذه الليلة تشبهُ إمرأة ترقص عاريةَ أمام موقد نار، النبيذ لا يقوم بِمهامِّهِ كما يجب ، لا زال االبَردُ يسكُنَني .لو ينشقُ هذا التجويف الصخري الآن عن كأس نبيذ من " زمارين " لاختلف الأمُر كثيراَ، ربما لسكنتُ قرص الشمس بلا تعب.
رفعت المرأة الجالسة على مسافة متوسطة منه كأسها مرة أخرى، رفع كأسهُ الذي امتلأ واغتصب ابتسامة من أعماقه أسكنها زاوية فمه.
غافلها بلحظه ونظر إليها بتمعن، جابت عيناه الوجه الأبيض ولما استقر أمام العنق، اعترف أن من صمَّم هذا الثوب الذي يغطي جميع الصدر ويترك جدولاَ يمتد من آخر العنق إلى منتصف الصدر مفتوحاَ على كل التكهنات ،لا بد أنه مُصممٌ محترف جداً، ذلك يشبه بذرة القمح حين ينشقُ منها جنينٌ في مرجٍ للياسمين .ضحك في نفسه، لم يكن للياسمين يوماَ مروجا.
خطر ببالهِ أستاذه "رفعت السعدي" أستاذ اللغة العربية، لو كان هنا الآن لوبّخه قائلاَ: ألا تعرف الفرق بين القمح والياسمين يا غبيّ ؟!
لو كان الأستاذ رفعت هنا، وقال لي ذلك، لطأطاتُ رأسي وأجبته بوجلٍ :كلاهما للرجلِ وطنٌ يا معلمي.
ابتسمت له المرأة مرة أخرى وهي تلاحظ تحديقهُ في بذرة القمح ،ابتسم لها بنصف حرارة ،وأعاد التحديق بكأسهِ ،خشيةَ أن تنكسر عيناه وتنحدرُ حيث بذرة القمح وهي تحدق به ، ما زالت تنقصه الجرأة لذلك.
جاءَ رجلٌ جلسَ مقابل المرأة، فكون الثلاثة هرماً، الرجل الوافد رأسه، رفع رأس الهرم كأسه للمرأة، فرفعت كأسها بتكلف.
ودّ أن تنتهي تلك الرقصة بسرعة، موسيقاها الصاخبة تكادُ تبددُ ما علق من النبيذ في رأسه من فرح، الأجساد التي بدأت تقفز كالقرود أفقدته مرة أخرى متعة الاكتشاف.
عكا كذلك مدينة تشبه امرأة "قال في نفسه" لكنها تشبه إمرأة تخرج من البحر وسط تلاطم الأمواج والزبد، عكا لا تتعرى إلا أمام البحر. لكن بيروت تتعرى في كل الأوقات. عهرُ المدن أكثرُ اغراءً من عهرِ النساء، وأشدُّ إيلاماً أيضاً. اكتشف هذه الحقيقة، فابتسم لتلك الحكمة التي هبطت على رأسه دفعة واحدة.
قامت المرأة تراقص الرجلُ الآخر، راقبها من بعيد، الشيء الوحيد الذي ميّزها أنها كانت قبل قليل قريبة منه، وأن بذرة قمح تحتضن جنين يسكن منبت الأنوثة والرغبة فيها.
لم تلبث قليلاَ حتى عادت وامتعاض يلوث وجهها.
- كأس نبيذ " قال للنادلِ مرة أخرى"
- من أين تأتي بهذا النبيذ؟ "سأل النادل"
- إنه من كروم بلدة "زحلة" يا سيدي "أجابهُ النادل مبتسماَ"
- مذاقه طيب، لكنهُ عَجز حتى الآن أن يلهبَ الدفء في ضلوعي .
قدمَ اليه النادل طبقاَ من الفستق السوداني، قبلهُ شاكراً وهو يقول:
- قد يتكاتفانِ ويمنحاني قليلاً من الدفء.
هزّ النادل العجوز رأسه مبتسماَ دون كلمة. النادلُ هو الشخص الوحيد في هذا المكان من يستطيع قراءتك جيدًا، خبرتُهُ الطويلة جعلته يفرق بين من يشرب فرحا، ومن يشرب وجعا.
- هناك برودة لا يستطيع بحرٌ من النبيذ أن يبددها يا سيدي
"قال النادل له"
تفاجأ بكلمة بحر، قفزَ الى رأسه بحرُ عكا بلا مقدمات. ما الذي جعلك تأتي بالبحر إلى الحانة أيها النادل، تباَ لك؛ في كلمة واحدة غرست معولاً من الماضي في روحي وبقيتَ مبتسماً
جاء الرجل الوافد مرة أخرى، كوَّنَ مع المرأة زاوية حادة، حاولتْ أن تقوم لكنّهُ أحاط خصرها بذراعيه وأجلسها، حاولت أن تفلتَ بهدوء لكن الرجلَ أصرّ أن يبقيها في زاوية حادة تضيق أكثر.
هن معتاداتٌ على هذا النوع من الرجال "قال يُسكتُ رجلاً شرقياً تحرك فيه" لا يعرف ما حدثَ بالضبط، لكن المرأة دفعت الرجلَ على الأرضِ حتى ترنحَ وكاد يسقط.
نظرت إليهِ بما يشبه الرجاء، قفزَ الشرقيُّ إلى رأسه مرة أخرى وبقوة.
خلّصَ المرأةَ من الرجل الذي تركها دون مقاومة، ربما قرَّر رأس الهرم آنذاك ألاَّ يخوض معارك صغيرة يبددُ فيها نشوته.
- كم تأخذين في الليلة؟
- عشرون دولاراً
- سأهبكِ إياها لو قررتِ أن تلحقي بي..
قال لها وهو يغادر الحانة قبلها، ويتركها تلبس معطفها الفرو لتلحق به، سبقها إلى السيارة، ولما وقفت بباب الحانة تبحث عنه، أ ضاء الأضواء العالية لتعرف وجهتها.
فَتَحَت باب السيارة "الفوكس" ، ودخلت.