ما قبل انطلاق القارب
فكرة الرحلة بدأت عبر وكالات ومكاتب سياحية في أماكن مختلفة، من ضمنها مكاتب في مصر، و "وسطاء" في غزة، تواصلت مع المهاجرين على أساس وعد بالوصول إلى أوروبا بسفن آمنة ومريحة، مقابل مبالغ مختلفة تراوحت بين ألفين إلى أربعة آلاف دولار. وقد اقتنع المهاجرون بالسفر في ضوء نجاح عدد من معارفهم في الوصول إلى أوروبا بنفس الطريقة، وتأكيد المكاتب بأن السفن آمنة ومجهزة جيداً.
بدأ كل مهتم بالتجهيز للرحلة، وتدبير الأموال بكل الطرق، بما فيها بيع الممتلكات، والاقتراض، فعلى سبيل المثال، أمّن عدد من المهاجرين من غزة المبلغ من الدفعات التي دُفعت لهم لترميم أو إعادة بناء منازلهم التي دمرها القصف الإسرائيلي خلال الهجوم الأخير على قطاع غزة.
بعض المهاجرين هم مصريون، وبعضهم الآخر من السوريين الذين لجؤوا إلى مصر أو إلى ليبيا في الآونة الأخيرة. أما المهاجرون من أصول غزية وبينهم عدد من العوائل، فقد كان عددا كبيرا منهم متواجدا بشكل مسبق في العريش أو محافظات مصرية أخرى، فيما وصل عددا آخر عبر معبر رفح، إما تحت بند العلاج، أو إكمال الدراسة، أو حصل على تأشيرة إلى دولة ما، ومنهم من دفع 1500 دولار للخروج من المعبر، بينما وصل عشرات آخرين عبر أنفاق بين الحدود المصرية وحدود قطاع غزة.
بحسب ما أفاد ناجون، فإن المهربين يأخذون المال ويختفون، ثم يتصلون بعد أيام ويبلغون طالب الهجرة أن يلتقيهم في وقت ومكان محددين. عند اقتراب موعد الرحلة تم تجميع معظم الضحايا في مدينة دمياط، في شقق مفروشة، وساعة الانطلاق نقلتهم باصات كبيرة إلى شاطئ دمياط وشاطئ الإسكندرية، وهناك كانت "مراكب صغيرة بمحرك" في انتظارهم على الشاطئ لتقلهم إلى قارب آخر في عرض البحر.
أثناء نقلهم من الباصات إلى المراكب تم سرقة ممتلكات بعضهم. انطلقت القوارب الصغيرة في الساعة العاشرة من مساء يوم السبت 6 أيلول (سبتمبر) 2014، واحداً تلو الآخر باتجاه القارب الكبير، وقد استغرقت الطريق معهم إلى القارب الكبير قرابة ساعة.
طبقاً للإحصاءات المتوافرة والإفادات التي جمعها المرصد الأورومتوسطي من الناجين، فإن عدد المهاجرين عند الاجتماع في هذا القارب، والذي يتكون من طابقين، كان ما بين 400 إلى 450 شخصاً، منهم نحو مئة طفل، تكدس منهم نحو 250 في الطابق العلوي، و150-200 في الطابق السفلي.
الركاب في القارب بينهم عوائل كاملة يحملون جنسيات مختلفة، حيث أن أكثر من نصفهم هم من الفلسطينيين، معظمهم من قطاع غزة، ومن فلسطينيي سوريا، إضافة إلى عشرات المصريين والسوريين والسودانيين وحملة جنسيات أخرى.
مسير المركب وحادثة الغرق
بعد أن جُمِعَ كامل المهاجرين في المركب الكبير عبر القوارب الصغيرة بدأ المركب بالسير نحو وجهته، كانت الساعة 11:15 مساء السبت 6 أيلول (سبتمبر)
وبعد ساعتين من انطلاق رحلتهم عبر القارب الكبير، انتقل الركاب إلى قارب آخر بناء على طلب المهربين. ثم وبعد يوم ونصف من المسير، أي مساء الاثنين 8 أيلول (سبتمبر)، انتقل الركاب مرة ثالثة إلى قارب آخر، ليكمل طريقه بهم نحو إيطاليا، وهو القارب الذي غرق فيما بعد.
أثناء الرحلة توقفت مضخة المياه، وقل ماء الشرب بدرجة كبيرة، ونفذ الطعام إلا القليل من التمور كانت بحوزة بعض الركاب. تقاسمها الركاب فيما بينهم، وكانوا يشربون الماء بغطاء العبوات، وعندما شح الماء بدرجة كبيرة أصبحت الأولوية في الشرب للأطفال.
وفي عصر الأربعاء، طَلبَ المهربون من الركاب الانتقال إلى مركب آخر، للمرة الرابعة، وبدا للركاب أن المركب الجديد صغير (طوله 16-18 متر)، ومتهالك، فرفضوا الانتقال إليه. وحدثت آنذاك مشادة عنيفة بين المهربين والمهاجرين، ثم ما لبث المهربون إلا أن نزلوا على رأي الركاب - فيما يظهر - ووافقوا لهم على أن يكملوا المسير دون الانتقال إلى القارب المتهالك.
وبعد أقل من ساعة، ظهر فجأة قارب آخر صغير يحمل اسم "الحاج رزق - دمياط"، لمحه الركاب فقط على بعد 50 مترا منهم، وكان على متنه ما بين 5-10 أشخاص، وعند اقترابهم من قارب الركاب أخذوا يصرخون عليهم بلهج مصرية.
ثم قام هؤلاء الأشخاص بصدم قارب الركاب لمرتين -ثلاثة مرات بشكل متعمد، رغم صرخات الناس والتلويح لهم بالأيادي والأقمشة، ما أدى إلى فتح ثغرة فيه، وبدء تسرب المياه إلى داخله، واختلطت مياه البحر بالزيت والوقود الذي كان يستخدم للمركب.
انتظر الأشخاص على هذا القارب ليتأكدوا من غرق قارب الركاب فعليا قبل أن يغادروا، وقال الناجون إن هؤلاءالأشخاص ظلوا يلتفون حول القارب وهو يغرق، بينما هم يضحكون ساخرين.
يمكن الجزم بأن الحادث كان جريمة متعمدة هدفت إلى التخلص من المهاجرين في عرض البحر، ويظهر ذلك جلياً منخلال صدم القارب أكثر من مرة وعدم مغادرة القارب الذي قام بالصدم إلا بعد أن تأكد من غرق قارب الركاب.
وقع حادث الاصطدام قبيل زوال شمس يوم الأربعاء 10 أيلول (سبتمبر) 2014، وكان قد بقي للمركب أقل من 24 ساعة للوصول إلى وجهته حسبما أخبر المهربون الركاب.
البحرية المالطية أكدت على أن المركب كان في المياه الدولية على بعد حوالي 300 ميل بحري (555 كلم) جنوب شرق مالطا عندما وقع الحادث.
ما بعد الغرق
أدى صدم المركب وإغراقه إلى غرق العشرات من ركابه فوراً، غالبيتهم من النساء والأطفال، ولم يتوافر عدد كافٍ من سترات النجاة.
فيما ظل 100-150 شخصاً متمسكين بأطراف المركب وألواحه وهم عائمون على سطح البحر ينتظرون من ينقذهم بدون فائدة، فيما تسببت الرياح الشديدة والبرد والعطش في فقدان معظم هؤلاء لحياتهم غرقاً، وأصبح عدد كبير منهم جثثاً طائشة على سطح الماء.
تماسكت مجموعة تقدِّر ب 20-30 شخصاً تقريباً، وتحلقوا حول بعضهم البعض حتى نهاية اليوم الثالث، لكنهم ما لبثوا بسبب ارتفاع الأمواج والرياح إلا وتفرقوا في دائرة قطرها 3 كيلومترات على الأقل.
ومع نهاية اليوم الرابع، مرت طائرة أطلقت قنابل دخانية سوداء، وفقا لأقوال الشهود الناجين في اليونان، ثم غادرت دون أن تفعل شيئاً لهم. وبعد قرابة الساعة، مرت سفينة شحن تنقل حاويات، يعتقد أنها سفينة يونانية، وكان عليها طاقم فلبيني، أنقذت اثنين من العائمين على سطح الماء، فطلبا من طاقم السفينة البحث عن آخرين.
واصلت السفينة البحث في المكان لمدة ساعة تقريبا، ونجحت في العثور على 5 أشخاص أحياء آخرين،ثم واصلت سيرها بعد أن أبلغت السلطات اليونانية بذلك. وبعد قرابة 8-9 ساعات، قدمت طائرة مروحية حملت الأشخاص السبعة الذين تم إنقاذهم، ونقلتهم جواً إلى مستشفى في مدينة "لاكاني" في جزيرة "كريت" اليونانية. إلا أن طفلا منهم عمره 9 أشهر توفي لاحقا. ونجا الستة الآخرون، وهم: طفلة سورية عمرها عامان، وفتاة سورية في ال19 من عمرها، ومصري ادعى في البداية أن اسمه حسام محمد، تبين لاحقا أن له اسما آخر، وثلاثة فلسطينيين، هم عبد المجيد نايف الحيلة، ومحمد هشام راضي، وشكري العسولي.
الشاهد "شكري العسولي"، أحد الناجين الستة إلى اليونان، قال في شهادته:"كنا قرابة خمسين شخصاً من الناجين، تجمعنا حول بعضنا على أمل أن تأتي لنا فرق إنقاذ. الليل والنهار يتعاقبان ونحن في بحر لا شاطئ له، ليلا المياه قارصة البرودة وفي النهار شمس تحرق الجلد.أعدادنا تتناقص. زميلي كان يمسك بجثة لكي يطفو على الماء فهو لا يعرف السباحة. ويضيف: "في مساء اليوم الرابع هاج البحر وتعالت الأمواج وتشتتنا، فيما بدت طائرات حربية في السماء وأطلقت قذائف دخانية غير مفهومة،وكان هناك بالون مطاطي على سطح البحر. ويكمل: "ظهرت باخرة تجارية ضخمة من بعيد، ذهبناإليها وأخذنا ننادي:Help.. Help،فأطفأت المحركات وألقت قوارب النجاة. تم سحب الناجين إلى السطح وقاموا بعمل إسعافات أولية، أخبرناهم بوجود آخرين، وبعد ساعة من البحث، كانوا قد نجحوا في إنتشال 5أشخاص آخرين فقط. ثم جاءت طائرة هليكوبتر حربيه تابعة لسلاح الجو اليوناني بعد 8 إلى 9 ساعات، ووجدنا أنفسنا في المستشفى بجزيرة كريت اليونانية – مدينة خانيا".
2 من الفلسطينيين الباقين على قيد الحياة أُلتقطوا من الماء بواسطة سفينة شحن بنمية، كان أحدهما يرتدي سترة نجاة، فيما قال الآخر إنه كان قد تمسك بعوامة مع سبعة أشخاص آخرين بينهم طفل مصري حتى اليوم الثاني، إلا أنهم غرقوا جميعا بسبب الإرهاق، ونجا وحده بعد أن انتشلته السفينة. هذان الفلسطينيَّان هما خميس بربخ وشادي الجبري. وقد تم إنقاذهما إلى ايطاليا، حيث نقلا إلى مدينة Comiso في جزيرة صقلية الإيطالية. وهما محتجزَين الآن من قبل السلطات الإيطالية كشهود للحادثة.
وثق المرصد الأورومتوسطي شهادة لشاب مصري كان على متن السفينة البنمية، أكد المعلومات حول إنقاذ الشابين الفلسطينيين، وقال إنه أثناء الإبحار شاهد عشرات الجثث تطفو على الماء. الشاهد نفسه قال بأن طائرة ما حاولت انتشال أحد الغرقى الذين كان يعتقد أنهم من الأحياء، ولم يُعرف إذا كانت أفلحت في انتشاله أم لا. فيما لم تؤكد أية مصادر أخرى هذه المعلومة.
ثلاثة فلسطينيين آخرين كانوا قد قضوا 5 أيام في البحر، إلى أن قامت سفينة تجارية فرنسية بإنقاذهم، وقامت بإرسال رسالة إلى خفر السواحل، والذين أرسلوا طائرة هليوكبتر مالطية قامت بنقلهم إلى مالطا. وهؤلاء هم: مأمون دغمش، والأخوان محمد وإبراهيم عوض الله. وهم موجودون الآن في مركز صافي المغلق.
السلطات المالطية أكدت نجاة ثلاثة فقط من ركاب السفينة، وعثورها على جثتين: إحداهما لرجل يبلغ من العمر نحو 50 عاماً، والأخرى لطفلة تبلغ من العمر نحو 3 أعوام.
ثمة مخاوف من أن تكون سلطات بعض الدول الأوروبية، ولا سيما إيطاليا ومالطا، قد علمت بالكارثة في وقت مبكروتجاهلتها للحد من تدفق المهاجرين.
تواصلنا مع الاتحاد الأوروبي والسلطات الإيطالية والمالطية ودعوناها للعمل المشترك من أجل فتح تحقيق في أسباب وملابسات اكتشاف الحادثة بعد أربعة أيام من وقوعها.
كبير ممثلي الادعاء في كاتانيا – إيطاليا، السيد "Giovanni Salvi"، قال إن إيطاليا قامت بفتح تحقيق في الحادث، تتعاون فيه عدة دول من ضمنها مصر واليونان ومالطا. وأكد على أن حادثة إغراق القارب كانت متعمدة، عقاباً من المهربين للمهاجرين لاحتجاجهم على ظروف نقلهم ورفضهم الانتقال إلى قارب آخر أكثر سوءاً، وقال إن الجريمة "تحمل خطورة استثنائية"، مؤكداً على حدوث تقدم كبير في التحقيقات.
وصفت المنظمة الدولية للهجرة الحادثة "بأكبر عملية إغراق خلال الأعوام الماضية، فهذه ليست حادثة، إنما قتلٌ جماعي في جريمة نفّذها مجرمون لا يحترمون حياة البشر".