هل للسجن غير تعريف واحد؟ ثمة سجون مادية وأخرى معنوية، سجن في قبوٍ أو في خيمةٍ، أو في زنزانة انفرادية، ومهما تعددت الظروف المكانية تبقى الفكرة واحدة هي "حبس"السجين ماديا وفكريا من أجل ألا يمارس حياته الطبيعية بشكل عاديّ. إنه حرمان الشخص من أن يعيش على البديهة والفطرة، ككل الكائنات السابحة المسبحة في هذا الكون. فالسجن كفكرة إذن هو سلب الشخص السجين حريته، انتقاما ماديا ومعنويا منه، لإخضاعه للسلطة المتجبرة، وهي بهذا المعنى طريقة من طرق التكيّف القسري على طبيعة غير طبيعته.
وجدت فكرة السجن كعقاب منذ وجدت الحياة البشرية، ووجود ثنائية الحاكم والمحكوم، ففي الأساطير الموغلة في التصور الإنساني ثمة "حبوس" متخيلة داخل قمقم، أو في الجحيم، أو وادي الموت. وثمة سجون أخرى في الحكاية أو الرواية أو المقولات التاريخية، أو في التاريخ نفسه. لذا كان السجن بوصفه فكرة مناقضة للإنسانية، حاضرة كنقيض بغيض في سيرة كثير من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين عربا وغير عرب. وأفرزت الفكرة العديد من الأعمال الأدبية، كرائعة الكاتب الإسباني سيرفنتيس "دون كيشوت"، وهنري شاير وروايته "الفراشة"، والماركيز دو ساد الذي أمضى (32) عاما في السجن كتب العديد من أعمال الروائية المهمة من قلب العتمة في السجن. وأما فيما يتعلق بالأدب الإنساني المقاوم لا يمكن إلا أن نذكر بأدباء جنوب أفريقيا الذين قاوموا سياسية التمييز العنصري، أو ما كتبه المعارضون للشيوعية داخل السجون السوفيتية.
لقد حضر السجن في القرآن الكريم في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وفي الأدب العربي كذلك، فذاق مرارته وكتب عنه جملة من الشعراء العرب كالحطئية، وأبو فراس الحمداني والمتنبي، وفي العصر الحديث استلهم السجن ومعاناته كثير من الأدباء العرب، من أمثال الشاعر صلاح عبد الصبور والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وروائيا، تناول عبد الرحمن منيف في روايته "شرق المتوسط" موضوع السجين السياسي، كما وتحدث عن الموضوع ذاته الطاهر بن جلون في روايته "تلك العتمة الباهرة" التي يروي فيها أحداثا من سجن "تزما مارت" المغربي.
أما في فلسطين وحضور السجن ومفرداته في الأدب الفلسطيني فحدث ولا حرج، فقد جرب السجن وعايشه كثير من الأدباء منذ عام 1917 وحتى الآن، ولذلك خلف السجن مدونة أدبية كبيرة زاخرة، اتخذ بعضها البعد التوثيقي، فكانت أشبه بالوثائق المكتوبة أو السير الذاتية أو المذكرات، كما فعلت مثلا عائشة عودة في كتابيها "أحلام بالحرية" و"ثمناً للشمس"، وقد سجلت فيهما، وخاصة الكتاب الأول تجربتها الاعتقالية ونقلت الكثير عن "فظاعة التعذيب الجسدي والنفسي خلال الاستجواب والحبس المتواصل في سجون الاحتلال". وكتاب الدكتور المتوكل طه "رمل الأفعى"، وغيرها الكثير الكثير. وأحيانا يتمرد الأسير على الفكرة، فيكتب وكأنه خارج الحدود والظل والأسوار، مثلما فعل مثلا الشاعر جمعة الرفاعي في سرديته "خارج الموعد" وما كتبه باسم الخندقجي في ديوان "طقوس المرة الأولى" وفي رواية "مسك الكفاية". وفي كلتا الحالتين فإن الأسير الفلسطيني يعمل على فكرة مضادة للسجن وذلك بالكتابة عنه، كأنه يواجهه ويصارعه، فيحيله نصا محبوسا بين يديه، فتتحول الفكرة من موت وإضعاف إلى فكرة أخرى موازية تعني الحياة والحرية والمقاومة.
إن السؤال الفلسفي الفكري الإبداعي الشائع بين جمهور الكُتّاب "لماذا يكتب الكاتب؟" يكون له هنا مع هذه الأعمال مبرر قوي ومسوغ يعادل الحياة ذاتها، ومن هذه الفكرة بالذات، استطاعت فكرة السجن أن تستولد كتابا كبارا، كان السجن هو دافعهم الأقوى للكتابة، تحقيقا لفكرة الانتصار المعنوية على ظروف ومواضعات غير عادلة وغير إنسانية بالمطلق، ولذلك فقد شكل أدب السجن والمعتقلات ظاهرة لافتة في أدبنا الفلسطيني، وتجدر الإشارة هنا إلى دراستين مهمتين تناولتا هذا النوع من الأدب في فلسطين؛ الأولى للباحث فايز أبو شمالة بعنوان "السجن في الشعر الفلسطيني"، والثانية بعنوان "شعر المعتقلات في فلسطين" للكاتب زاهر الجوهر، ويبين الباحثان في الكتابين كثيرا من الظواهر الأدبية والفنية المتصلة بهذا النوع من الأدب، عدا المقالات التي كتبها كثير من النقاد وتناولوا فيها بالتحليل هذه الظاهرة الأدبية.
إذن والحالة هذه وما تشير إليه إبداعات الأسرى الفلسطينيين، لا بد من النظر إلى تلك الإبداعات من منظورين متكاملين؛ الأول إنساني بحت، يندرج في سياق المقاومة الفلسطينية، باعتبارها فعلا إنسانيا مشروعا ضد محتل بغيض غاصب، والثاني من ناحية إبداعية، بوصفهم مبدعين متمردين على فكرة القيد والحبس في الزمان والمكان، لتحضر إبداعاتهم تحدث عن أرواحهم الطليقة الحرة في مجموعة كبيرة من الإصدرات والتي تشير إلى تحقيق مفهوم المقاومة بالكلمة فتسير جنبا إلى جنب مع المقاومة بالفعل النضالي المتعدد الوجوه، وما تدل عليه من تمرد بالكتابة واختلاق أفق متسع للحرية.