بقلم: وجدان الصائغ
شكلت هذه المجموعة فتحاً شعرياً، أكدت انتقال الشاعر موسى حوامدة إلى أفق جديد، يمتزج فيه الشعري، بالأسطوري، بالصوفي، بالسريالي، وكأن المتخيل الشعري شاء أن يخترق برؤاه المتحدية إكسير الصور الشعرية المألوفة، لينسج نصه المتفرد المتعبد في محراب الموت.
إنه يعيد بوعي حاد ومكابدة جمالية إلى الذاكرة، الوجوه الأسطورية التي داعبت خيوط الموت، إلا أن المتخيل الشعري لا يستدعي هذه الوجوه إلا ليتحداها، فينزع عنها هيبتها المستقرة في الذاكرة الجمعية، فها هو صوت الشاعر يقف متحدياً سلطة ملك اوروك جلجامش :
حين يأتي الموت
سأرمي زهرةَ الخلود
في وجه جلجامش
وأهزأُ
أهزأُ من نصائح الأطباء.
حين يأتي الموت
لن أساومه
لِيُحرِّضَ المُقرَّبين
على حفلات النواح
كُلَّما كان عددُ المشيعين أقلّ
كان ضميري أكثرَ بياضاً
وكلما كانت الدموع أقلّ
كانت أخطائي أجمل.
فإذا كان جلجامش قد انحنى أمام سلطة الموت فان النص الشعري يكسر هذه السلطة ويتحداه فاتحا أجنحته للخلود، ومثل هذا ينسحب على قول موسى حوامدة :
أيتها المقبرة
كم زجاجة من النبيذ يحتاج العبد ليسهَر في أرجائك
وكم حسنة لا بدَّ أن يفعلها الزائر الجديد
ليكون محطّ إعجاب الأموات؟
وقد يستدعي المتخيل الشعري وجه بينلوب المتعب من رحلة الانتظار، ليضعك أمام صورة شعرية مخضلة بالألق لوحة مرسومة بألوان الألق والضوء كاسرا بذلك عتمة ليل الانتظار والترقب، تأمل الآتي:
من منكن يا بنات
كانت تلك السيدةَ المشغولة بنسج شال مطرز بالنجوم؟
وتأمل أيضا حين يصفها :
كمَّا ربة الفجر تحطُّ أناملَهَا الورديةَ في رحلة أوديسيوس
المتن يضعك أمام وجه أدويسيوس الذي تحدى الزمن حين عاد محملا بفاكهة الحب والشوق.
وقد يثور موسى حوامدة على الأسطورة بوصفها مناخا منحازا، فيصرخ في وجهها وفي وجه حراس العتمة:
لم نُخربْ هلامية الفيزياء
وانحياز الشر في عفن الأسطورة
لم نرفع أيدينا لنمسك الغربان
المتن يستدعي الغربان ليستدعي وجه الخطيئة الاولى، وجه القاتل والمقتول معا، ليضعك مرة أخرى أمام أسطورة الراهن المعاش المعبأ برائحة الموت والدم .
ومثل هذه الصرخة الراعفة تجدها في بوح المشهد الشعري الآتي:
هناك في حقول النار
رأيت أعدائي يسرقون الكرز
هناك في حقول النار
جمعتُ أسلحتي لأقتل الخنزير
ما دلَّتني السنابل على قبر أدونيس
احترقت الشمعة والمذراة
هناك في حقول النار.
بالضرورة فان المتن يشتغل على أكثر من بعد دلالي يتأرجح بين الراهن والمنصرم وبين الواقعي الأسطوري، ليضعك وجها لوجه أمام محنة الذات الشاعرة التي وجدت في (قبر أدونيس ) ملاذا وهنا تكمن المفارقة، فالذات الشاعرة لا تبحث في رحلتها المضنية في خضم حقول النار عن ادونيس بل عن (قبره) وهنا تقف في مواجهتك حزمة من التأويلات لعل أهمها هو: موت القيم وموت البراءة وموت الجمال، إلا أن إصرار الذات المتحركة داخل النص على البحث عن ادونيس يشكل رحلة جديدة خائبة باتجاه العدم، بل انك تجد تحولات الرموز الأسطورية المخضلة بالجمال والخصب والنماء - اقصد السنابل- وصيرورتها رموزا للخديعة والخذلان. لذا تجد الشاعر في خاتمة ديوانه يتخلى واعيا عن ذاكرته الموصولة بانتماءاته المتعددة حين يصم أذنيك صراخه الراعف المكتنز بأدوات النفي المتكررة بشكل لافت على مدار النص:
يا بلادي
لست موسى الفرعوني
ولستُ شعيباَ
إنني أنثى الرجاء
ضيعتني أمي في سوق الصرافين
وحين عدت
كانت سيناء محبوسة في قبضة الهكسوس
رجاءً لا
توقظيني
من هلوساتي
لا تدخليني
دوار
الأبجدية
ما خنتُ
إخناتون
ولا أغضبت كليوباترة
ما بعت المسجد
الأموي
ولا زوَّرت تاريخ بترا
أنقى من البياض كنت
وكانت صروحي عامرة
قلبي اشتغال الكلمات
بتأثيث الحاضرة
عمَّرت خراب الكون
وما بعتُ رفاقي
ولا غازلت عاهرة
لكن المغول أفسدوا الناس حولي
فما عاد ينفعني اليقين
ولا سورة التحرير
أطوي البلاد طياً
وأعود من نقطةٍ
خاسرة.
هكذا يرسم لك موسى حوامدة في مجموعته الشعرية (موتى يجرون السماء) جغرافيته الشعرية والمكانية في آن واحد، انه يغرف الجرح ويغرف الشعر في إطار قصيدة واحدة تشظت إلى عناوين داخل الديوان الشعري، حتى لتخال وأنت تجوس فراديس الديوان الشعري بأنك أمام قصيدة واحدة يتداخل فيها التشكيلي بالشعري ليعكس على مراياه وجوهنا المتعبة في زمن العتمة والشتات.
*ناقدة عراقية وأستاذة الأدب العربي في جامعة ميتشغن الأمريكية.