ثمّة لحظات تلعن فيها الأمل؛ لأنّك تشعر بأنّك ضعيف أمامه، ولكنّك بعدها تعود منكسرا له، معتذرا عمّا بدر منك بحقّه، تعانقه، وتتوسّل إليه بألا يغيب عنك، وهو بدوره يعدك بألا يغيب.
ثمّة أحزان في القلب أكبر من أن تُكتب، وانكسارات أكبر من أن تُحكى، وثمّة غيابات تحزننا، تهشّمنا، تجعلنا في ظلام دامس من شدّة الألم.
أتُرانا نستطيع المضيّ في هذه الحياة الموحشة دون الأشخاص الذين نحبّهم؟!
ها هي الحياة مجرّد ذكريات لا نستطيع تجاوزها، نضحك، فتتمثّل أمامنا، نبكي، فنراها جالسة بجانبنا، ننام نشكو نصرخ، وهي قابعة في مخيلتنا.
أتساءل: هل نستطيع الهروب من الذّكريات؟
ها أنا أجلس على قارعة الحياة، تتسلّل أصوات الموسيقى التي تنبعث من المذياع بهدوء إلى أذنيّ؛ لأغوص في بحر من الذّكريات، وأتوغّل في الأعماق، أحاول أن أفتح الماضي وأن أشاهده، ثمّة الكثير من الأحزان في هذا العالم.
لا مكان لأخفي الذكرى في هذا الكون البائس، علينا أن نجالس كلّ لحظة في حياتنا، وأن نتوغل بالتّفكير العميق.
وها أنا أتوغل فيها مع ذلك الصوت الفيروزيّ الحزين، ولا أعلم وأنا أخطّ الأحداث من أين أبدأ؟ أمن البداية أم النّهاية؟ حسنا، سأبدأ من حيث أريد؛ من بداية البداية حيث الأحزان.
نشأتُ في بلدة حزينة، عيونها تلمع في الصّباح؛ لأنّها كانت تبكي في المساء، تسمّى (طولكرم). وحسب المعلومات التي قرأتها وأنا صغيرة في إحدى الكتب، ولا أزال أذكرها: "تقع طولكرم في منتصف السّهل السّاحليّ، وترتفع عن سطح البحر من 55 إلى 125 مترًا، وأصل تسميتها طوركرم، أي جبل الكرم، والكرم هو حقل العنب، وتحاصر المستوطنات الإسرائيليّة طولكرم من مختلف الجهات، فعلى أراضيها أقام الاحتلال أكثر من 25 مستوطنة"( ).
حان وقت النوم، أمّي قلقة بعض الشّيء؛ لسبب تجهله، ونجهله نحن أيضا، وتقول: "أشعر بأنّ ثمّة شيء سيّء سيحدث الليلة!".
لا بأس- قالت أمّي- كلّ شيء سيكون على ما يرام في الصباح، والوقت الذي سيمضي، من هنا حتى الصّباح، كفيل بالكشف عمّا سيحدث.
أمّي، مع حذرها، وضعت ملابس الصّلاة قربها، تحسّبًا لأيّ طارئ.
قرابة منتصف الليل، ضوضاء صاخبة تقترب من بيتنا، فوضى عارمة، وصوت عالٍ يصمّ الآذان، الكشّافات الضوئيّة تطرد العتمة؛ كأنّها شمس منتصف النهار، صوت طائرة الهليوكبتر يضجّ فوق سطح بيتنا، صوت ناقلات الجنود يقترب أكثر فأكثر...
استيقظت أمّي، أيقظت والدي قائلة: "أبو حسام، قوم قووم قوووم، جنود الاحتلال يحيطون بنا!"
استيقظ والدي، أخذا يسترقان النّظر من خلف الستارة.
توقفت ناقلات الجنود أمام بيتنا، الطائرة تحلّق على علوّ منخفض يهزّ جدران البيت، نزل الجنود وكلابهم من سيارتهم الكبيرة، طوّقوا البيت من كلّ جانب، وعلى كلّ زاوية كلاب حراسة؛ تمدّ ألسنتها لاهثة. طرقوا باب البيت الحديديّ بأعقاب البنادق وسط صراخهم ونباح كلابهم. وأطلقوا قنابل صوتيّة هزّت المكان؛ ليبعثوا الرّعب كمقدّمة لاقتحام البيت.
صرخت و شقيقاتي رعبا. والدتي التصقت بوالدي؛ تُبسملُ وتُحوقلُ وتدعو الله.
فتح أبي الباب بعد أن طلب من أمّي أن توقظنا جميعا، وتخرجنا إلى ساحة البيت؛ بناء على طلب الضابط، وإحضار بطاقة الهويّة.
جاءت أمّي مسرعة، همست: يلا بسرعة ... قوموا الجنود يطوّقون البيت... يريدون تفتيشه والتّعرّف على من فيه.
ارتدى كلّ منّا ما تيسّر له من ملابس وجدها قريبة منه، وخرجنا نرتجف من الصقيع ومن الخوف، لم أبلغ السابعة من عمري يومئذ، لا أستوعب حقيقة ما يجري وأسبابه تماما، خرجنا إلى ساحة البيت، حيث
نباح الكلاب، ومناظر الجنود المموّهين أرعبتني، فبدأت بالبكاء بصوت خافت.
بعض الجنود ملثّمين، والبعض الآخر دهنوا وجوههم بالسّواد. جميعهم مدجّجون بالسلاح والقنابل.
ومع خروجنا؛ واحدا تلو الآخر حسب تعليماتهم، كانوا يفتّشوننا أطفالا وبالغين؛ وكأنّهم يبحثون عن شيء ما قد يكون مخبّأ في أجسادنا، ويأخذون بطاقة الهويّة ممّن هم فوق السّادسة عشرة.
تفحّصوها جيّدا، سألوا عن شقيقي حسام، أجابه والدي بأنّه لا يعرف أنّى هو، أشار الضابط إلى والدي أن يصمت بإشارة من يده، و قال: كل مرة تعيد الكلام ذاته.
جلسنا على الأرض متكئين على جدار ساحة البيت، بناء على طلب الضابط. أخذت العائلة تنظر إلى بعضها، والكلّ مستغرب ويتساءل في سرّه عن سبب كلّ الذي يحدث، فهذه المرّة تبدو مختلفة، وحشيتهم تضاعفت، وعددهم فائض!، حيث إنّهم عادة يأتون للبحث عن حسام، ويسألون أبي، يفتّشون البيت ثمّ يتركون بلاغا لحسام. لكن ما الذي استجد هذه المرة بالتحديد؟!
فجأة عرفنا الإجابة، فحين أشار أحد الجنود إلى الضّابط، أخذ الجميع ينظر إلى سطح البيت. أوه! يا الله!، إنّه شقيقي حسام يحاول الهرب، ولم يكن أمامه إلا خيار واحد، ألا وهو القفز، تفاجأ بصراخ الجنود وبفوهات الأسلحة التي تتأهّب لتفجير رأسه، تراجع إلى جهة أخرى، طفق يبحث عن أي مخرج، وفي كلّ تلك الأثناء، لم تتوقف مكبّرات الصوت عن مطالبته بتسليم نفسه، كما أنّ الكشافات التي يستخدمونها في عملهم هذا حولت سطح المنزل إلى نهار.
رفض تسليم نفسه، ووقف مستعدّا لتلقي مصيره بشجاعة كبيرة، ولو كان الموت! اقتحموا البيت يرافقهم أبي في المقدّمة، أخذوه كدرع بشريّ؛ تحسبا لأيّة مقاومة، أو أي شيء قد يحدث، صعدوا بكلابهم وبنادقهم.
وصلوا إليه. سقط قلب أمّي، ارتجفنا رعبا، طلبوا منه رفع يديه، والاستسلام، رفض شقيقي ذلك، وبقي واقفا مكانه دون حراك، وكأنّهم لم يصعدوا إليه، وفي ذات اللحظه التي لقي بها مخرج، أحاطوا به، ألْقوه أرضا، مزقوا قميصه وكبلوا يديه.. لقد أرادوه حيا! أتوا به إلى حيث كنّا، وقف بشموخ.
أخذتُ اتأمّله وأتفحّص ملامحه: يا له من شاب في غاية الوسامة، تصفه أمّي دائما بقولها: يقول للقمر قوم لأجلس مكانك، إنّه يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، طويل القامة، وله بعض الشعيرات القابعة فوق رأسه، فقد كان على حدّ تعبير أصدقائه "أصلع"، وله عينان عسليّتان، ورموش طويلة كثيفة، وأنف دقيق، وبعض من حبّ الشباب يتناثر على وجهه الأبيض كقطرات النّدى على وردة في ساعات الفجر. حقّا، إنّه قمر كما وصفته أمّي.
*أصغر كاتبة فلسطينية