لم أكن فتحاوياً ذات يوم، بالعكس، ففي فترة الصبا كنا على خلاف شديد مع حركة فتح وطريقتها في معالجة الأمور، لكن أياً منا، لا نحن الذين لا نؤيد فتح، ولا أولئك الذين يؤيدونها بشدة، قد وصل به الأمر إلى تخوين الطرف الآخر واتهامه بما ليس فيه، ببساطة كانت معاركنا مشرّفة.
هل تكمن المسألة فعلاً في ضرب رمزية ياسر عرفات؟ هل بدأت حملة من أجل هذا أم أن الحملة مستمرة منذ سنوات طويلة، حتى قبل أن يتوفى أبو عمار؟ وهل فعلا يستحق الكلام الذي أطلقه محمود الزهار أن تتم مناقشته ونفيه؟ أم أن رمزية ياسر عرفات تطغى على كل احتمال في أن يكون قد تصرف بهذه الطريقة؟ وهل يمكن تقييم القادة العظام في التاريخ من خلال موقف واحد حتى لو كان صحيحاً؟ أظن أن هذا ما لم يفهمه الزهار وإبراهيم حمامي، فما الحكاية؟
الحكاية أن هناك شخصيات تعبر التاريخ كما يعبر شخص شارعاً معبداً لا خطر فيه، يعبرون بأمان، ويصلون إلى الخلود، الخلود بمعناه التاريخي وحتى الاجتماعي في أحيان أخرى، فحتى في أزمان النبوات كانت هناك أخطاء للذين آمنوا، لكن قيمة ما قدموه من أجل نشر الديانة والحفاظ عليها كان كفيلاً بأن يغفر لهم أشياءهم الصغيرة، لذلك عبروا التاريخ كشخصيات لا غبار عليها، أعرف أنه لا يوجد شخص في التاريخ لا غبار عليه، فلا يمكن تصور شخص يعيش ثمانين عاماً دون أخطاء، لكن المعدن الصقيل لا يحتفظ بالغبار، هذه حقيقة، وهناك نوع من الرجال صُنع من هذا المعدن الصقيل، فبقي في ذاكرة وقلوب الناس إلى اليوم.
وفي النهاية، فإن عرفات يمكن تلخيص كل ما فعله وما لم يفعله، أن الرجل مات وهو لم يوقع أو يتنازل عن القضايا الرئيسية في المسألة الفلسطينية: القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات...
أظن أن محاولات قتل ياسر عرفات تاريخياً، بعد المحاولات التي كانت تجري لقتله أثناء حياته، ليست محاولات عبثية، وليست مجرد كلمات قالها قائد في حماس أو في حركة الأخوان المسلمين في ساعة غضب، بل هي أشياء مخططة سلفاً، ليس باتجاه عرفات بالذات، بل باتجاه كل رمز فلسطيني جاء قبل حركة حماس، فقد شاهدت فيلمين أنتجتهما حركة حماس في غزة، وكتب السيناريو لهما محمود الزهار بنفسه، ينقل الفيلمان رسالة واضحة تقول إن النضال الفلسطيني بدأ منذ انطلاقة حركة حماس، أما قبلها فلم يكن سوى ألعاب هنا وهناك، وهنا لا أراني بحاجة إلى التعليق على الموضوع.
قبل ثلاث سنوات من الآن، عقدت ورشة عمل في غزة من قبل وزارة التربية والتعليم التي تديرها حماس بالطبع، ودعي إليها عدد من الأشخاص من خارج إطار حماس، وكان السؤال المركزي في الورشة: كيف يمكن أن ندخل حركة الأخوان المسلمين في المنهاج الفلسطيني على أنها شاركت في ثورة 1936 التي بدأها عز الدين القسام... وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الطريقة التي تفكر من خلالها حركة حماس، التي أظن أن الزهار هو أكثر من يعبر حقيقةً عنها، فأنا لم أصدق يوماً أياً من التصريحات الخجولة التي تدعو إلى الوحدة الوطنية لا من هنا ولا من هناك.
نعود إلى ياسر عرفات، الذي قال عنه جورج حبش: جميعنا اختلفنا معه ولم نختلف عليه، فما الفائدة من كسر رمز مثل عرفات؟ ولماذا تحاول حركة حماس أن تفعل ذلك، فما هي الفائدة التي يمكن أن تتحقق من خلال هذا لو تم لها ما تريد؟
حركة حماس حركة براغماتية، كما تكون البراغماتية على أصولها، وهي تعمل على خطين في الواقع، واحد من هذين الخطين هو خط المستقبل البعيد، فهدم صورة قائد مثل ياسر عرفات واستبداله بقائد مثل أحمد ياسين أو عبد العزيز الرنتيسي، قد يكون اليوم غير ممكن، لكن تكرار ذلك على المدى الطويل وخلال عشرين عاماً على سبيل المثال قد يكون ممكناً إذا لم يتم التصدي لهذه المحاولات، وما قاله الزهار، قد يلاقي صدى عند البعض القليل، وهو لا يريد أكثر من ذلك، فهذا يكفيه لكي يحقق مشروعه مع الوقت، فالقليل على القليل يصنع الكثير، هذه وجهة النظر البراغماتية الميكافيلية التي أثبتت صحتها على مر التاريخ.
إن الهروب من واقع غزة، وعدم قدرة حركة حماس على الإيفاء بالتزاماتها كجهة حاكمة في غزة، قد بات ضرورياً بعد أن بدأ العامل الذي تلعب عليه حركة حماس منذ سنوات طويلة بالانهيار، وهو الأمن الاجتماعي، فقد كثرت حالات الانتحار والقتل، وكثر أولئك الذين يحرقون أنفسهم، وكثرت الأخطاء الطبية، وبدأت عمليات النصب والسرقة على الدراجات النارية تحدث في وضح النهار، وضاق الناس من كل شيء، من الكهرباء والمياه والحدود والسفر والحروب وانعدام الأمن، فلا بد في هذه الحالة من اللجوء إلى ما وراء المتطلبات اليومية، فيمكن أن تكذب الحركة تقريراً هنا وخبراً هناك، لكن عندما يصيح المجتمع بأكمله، ومنه جزء من أبناء الحركة أنفسهم، فلن يعود السؤال عن الأسباب مبرراً، فهي لعبة، إما أن تلعبها بذكاء أو تخسرها، لا حل ثالث أمامك، وهذا هو بالضبط ما تقوله السياسة الميكافيلية: دع الناس ينظرون إلى الجهة الخطأ من المشكلة...