الحدث- محمد غفري
من المتعارف عليه أن مختلف دول العالم تسعى إلى دعم اقتصادها المحلي، لما يمثله من أهمية استراتيجية لهذه الدول، وذلك من خلال دعم الصناعات المحلية وتطوريها والتقليل من الاعتماد على الخارج، وتحسن جودة وسعر المنتج المحلي، وذلك يؤدي إلى زيادة الطلب عليه، وبالتالي تشغيل المزيد من اليد العاملة والتقليل من حجم البطالة، وما يتبعه من التقليل من الفقر، وهذا الأمر كله عبارة عن حلقة مكملة لبعضها تقود إلى النهوض بالاقتصاد، ورفع الناتج المحلي الإجمالي، وتحسين مستوى المعيشة.
وكما هو الحال في مختلف دول العالم، فإن فلسطين تسعى إلى النهوض باقتصادها، والتقليل قدر الإمكان من الاعتماد على الدول المانحة، ولكن المعلوم أن السياسة تصنع اقتصاداً، والاقتصاد يغير في السياسة، لذلك في وضعنا الفلسطيني دائماً ما يصطدم صانع القرار السياسي، بشيء اسمه احتلال إسرائيلي، وسياسات واتفاقيات موقعة تقيد اقتصاده.
وما زالت اتفاقية باريس المبرمة في عام 1994 تطبق على أنفاس الفلسطينيين، وساهمت في استغلال الجانب الإسرائيلي لبنودها وتفريغها من محتواها وعدم تعديلها وتطويرها بما يتلائم مع المتغيرات الاقتصادية المحلية والعالمية إلى تدهور حال الاقتصاد الفلسطيني، كما أن الاتفاقية أضعفت القدرة على الإنتاج واستغلال الأرض والموارد الطبيعية الفلسطينية وتطوير التجارة والصناعة والزراعة والاستثمار في فلسطين، بل يتحكم الجانب الإسرائيلي بنسب الضريبة المضافة بما يتلاءم مع الأوضاع الاقتصادية في إسرائيل، ومنذ عشرين عاماً والفلسطينيون يصرخون بضرورة تصويب البنود التجارية للاتفاقية، وهذا الذي لم يحدث بعد.
ووضعت اتفاقية باريس بعض المنتجات الأساسية التي يحتاجها المستهلك الفلسطيني، كاللحوم والألبان والقمح والأدوات الكهربائية، في نظام أطلق عليه نظام الـ "كوتا"، يتم بموجبه إعفاء بعض المنتجات من الرسوم الجمركية.
ورغم أن هذا يعتبر امتيازاً إلا أنه من ناحية الأسعار جعل التجار الفلسطينيين يكتفون بالكمية التي تدخل عبر نظام "الكوتا" وهي كميات لا تكفي لاحتياجات السوق الفلسطيني أساساً، ولا يسعى التاجر لتزويد حصته ومساهمته في السوق لأن هذه الزيادة ستكلفه الكثير.
ويوضح وزير الاقتصاد الأسبق باسم خوري أن إسرائيل لديها قطاعات إنتاجية ضخمة، وهي تريد حماية هذه القطاعات، لذلك كانت تفرض جمارك عالية على البضائع، ولكن المفاوض الفلسطيني رأى أن المواطن الفقير لا يستطيع دفع قيمة هذه البضائع بأسعار عالية، فصار الاتفاق على "كوتا" معينة لبعض السلع الأساسية، يتم بموجبها إعفاء هذه السلع من رسوم الجمارك، مثل الحليب واللحوم.
ويضيف خوري في مقابلته مع "الحدث"، أن الكوتا تم تحديدها في ذلك الوقت نسبة إلى عدد السكان داخل الأراضي الفلسطينية، ولكن السكان في ذلك الوقت عند توقيع بروتوكول باريس هم أقل من نصف عدد سكان فلسطين الآن بعد عشرين سنة، وتبلغ قيمتها أكثر من 400 مليون دولار، ولم يتم الحديث عنها حتى اليوم باستثناء الفترة التي تسلمت فيها حقيبة وزارة الاقتصاد.
ويؤكد خوري أن: "المشكلة الرئيسية في الكوتا، أنها لا تكفي لعدد السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يوجد عمل جدي ودؤوب من أجل رفعها، أما المشكلة الثانية فهي طريقة توزيع الكوتا، ومن هي الجهة المستفيدة منها، وأيضاً أن من يأخذ حق امتياز كوتا معينة من أجل إستيرادها ويعفى من الرسوم الجمركية، لا يقوم بخفض الأسعار كما هو مطلوب منه، بل يبيع بنفس سعر السوق وأغلى من ذلك، كما هو الحال في كوتا الحلب، فقد منحة لشركة نستلة وهي تبيع بسعر أغلى، والسلطة تنازلت عن حقها في رسوم الجمارك من أجل خفض السعر للمستهلك ولم يتحقق ذلك".
لذلك يرى أن الجهات المسؤولة يجب أن تقوم بثلاثة أشياء من أجل تحقيق التوزيع العادل للكوتا والاستفادة منها، أولاً نضمن آلية معينة للتوزيع ووفقاً لهذه الآلية، تستفيد منها الشرائح المهمشة في المجتمع وبشكل أساسي الفقراء وعائلات الأسرى والشهداء، وثانياً أن تصل إلى المناطق البعيدة عن المركز، وتدفع ثمناً غالياً نتيجة الجدار، ونحن بذلك نعزز من صمودها، أما ثالثاً فيجب الاستفادة من الكوتا في إطلاق العملية الإنتاجية الفلسطينية، فمثلاً شركة نستلة عندما تأخذ كوتا الحليب نضع شرطاً عليها بأن تفتح مصنعاً لتعليب الحليب في فلسطين، وبالتالي تشغيل أيد عاملة.
هذا الأمر ينبطق على كل السلع التي تدخل في نظام الكوتا بأن يتم الاستافدة منها في الصناعة والعملية الإنتاجية، بحيث تدخل هذه السلع المستوردة دون دفع للجمارك في عملية الإنتاج، مما يقلل من تكلفة الإنتاج على المصنع، وبالتالي خفض سعر السلعة للمستهلك، وهذا يقود إلى منافسة أكبر في السوق، هذا الأمر يجعل المصنع يحتاج إلى تشغيل أيد عاملة جديدة من أجل زيادة التصنيع لتحقيق حجم الطلب، وعندما تزداد كمية التصنيع يدفع المصنع ضرائب أكثر للحكومة، مما يقود إلى إطلاق العملية الإنتاجية ودورانها بشكل سليم، وبالتالي استفادة فئة أكبر من "الكوتا"، بدلاً من أن يستفيد منها التاجر فقط والمشتري، وفي هذا السياق يرى الخبير الاقتصادي باسم خوري، أن على السلطة أن تكون ذات نظرة اقتصادية أوسع، كي تسخر "الـكوتا" في العملية الإنتاجية.
لكن وزير الاقتصاد الأسبق عاد وأكد أنه لا يدري أحد ما هي "الكوتا"، حيث قال: "أعتقد بأن الطامة الكبرى أنه لا يسمع أحد بـ "الكوتا"، ولا أعرف أن كان وزير المالية أو وزير الصناعة أو الزراعة يعرف عن "الكوتا" شيئاً، إلا عندما يصل إلى مرحلة التعامل معها وتوزيعها، يعرف عنها، وعدم وجود شفافية كاملة في التعامل مع هذا الملف وبقائها في علب مغلقة"، فهو يرى بأن "الكوتا" وبعض الأشياء الاقتصادية الأخرى كفيلة بأن تسد العجز المالي للحكومة.
وفي خضم تسارع المتغيرات الاقتصادية التي تشهدها فلسطين، نشطت في الآونة الأخيرة حملات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وتوسعت بشكل أكبر نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، الذي كان بمثابة قنبلة موقوتة فجرت حملات المقاطعة في وجه الاحتلال، لكن الارتباط الوثيق بين الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي يحتم عليك أمراً واقعاً يؤثر في هذه الحملات، مما يجعل لـ"الكوتا" علاقة أخرى مباشرة تؤثر أيضاً على مدى توسع مقاطعة متجات الإحتلال.
كيف تؤثر "الكوتا" في عملية المقاطعة للمنتتجات الإسرائيلية ؟
يقول خوري رئيس مجلس إدارة دار الشفاء لصناعة الأدوية، إن الإنسان يحتاج دوماً إلى السلع، ولا يوجد شيء يقبل بالفراغ وهذا قانون من قوانين الطبيعة، وينطبق على قوانين السوق، فأنت عندما تريد أن تقاطع المنتجات الإسرائيلية يجب أن يكون لديك بديل، هذا البديل جيد من ناحية الجودة وجيد من ناحية السعر، ولا تستطيع أن تفرض على المواطن الفلسطيني سلعاً أعلى من ناحية السعر، أو أقل من ناحية الجودة.
ويضيف بالحديث عن نفسه: "أنا كصناعي ليس من المنطق علي، أن أفرض على الناس بضائع بحجة الوطنية ذات جودة أقل، وإما أن أصنع لهم بضائع جيدة من ناحية الجودة والسعر أو لا أفرض هذا الأمر عليهم".
لذلك يؤكد بأن "الكوتا" تساعد في المقاطعة من خلال إدخالها في الإنتاج، حيث أن غالبية سلع "الكوتا" من الممكن أن تدخل في الإنتاج، وبالتي ضمان توفرها للمصانع بسعر أقل، يقلل من سعر التكلفة، ويستطيع عندها المنافسة ويستثمر في رفع الجودة، على سبيل المثال في صناعة الشوكلاته التي يدخل فيها حليب وزبدة وسكر وكلها لها "كوتا" ضمن الاتفاق، وعند توفيرها بسعر قليل للمصنع مقابل مالي للحكومة وضمان بيعها بسعر أقل للمستهلك، والكل يستفيد بهذه الطريقة، وأنا أضمن أنها سوف تقلل بشكل كبير من سعر السلع، في حال كان هناك انفتاح وتعاون بين السلطة والحكومة والقطاع الصناعي والمستهلك.
القمح كسلعة أساسية مثال على الإشكاليات في "الكوتا"
وخلال المقابلة الصحفية التي أجرتها "الحدث" مع وزير الاقتصاد الأسبق باسم خوري، اتصلنا برئيس اتحاد الصناعات الغذائية باسم ولويل، من أجل أخذ القمح كسلعة أساسية لا غنى عنها وبيان أثر "الكوتا" عليه، حيث أكد ولويل أن حاجة السوق الفلسطيني من القمح هي 500 ألف طن، "الكوتا" المحدد للقمح هي 30 ألف طن ولا تتعدى 6% من احتياجاتنا، وتم تحديد "كوتا" القمح هذه عندما كان استهلاكنا للقمح في فلسطين 200 ألف طن.
ويؤكد ولويل، نحن الأن بحاجة إلى رفع "كوتا" القمح بسبب ارتفاع عدد السكان، ويستطرد قائلاً: "نحن لا نعرف أين تذهب حتى 30 ألف طن "كوتا" من القمح، ولو تم تسخيرها في صناعة الطحين لأدى ذلك إلى تقليل التكلفة على المصنع وخفض سعرها بالنسبة للمستهلك"
خلاصة الأمر عندما تم تحديد كمية "الكوتا" للسلع لم يتم تحديدها بشكل عادل يؤدي الغرض منها للفلسطينين، وكذلك لم يتم رفعها مع المتغيرات الحاصلة بعد أكثر من 20 عاماً على توقيع اتفاقية باريس، هذا أولا، أما الأمر الثاني فهو الإشكاليات العديدة التي تحيط بطريقة توزيع "الكوتا" ولمن تذهب وكيف يتم استغلاها، وأخيراً "الكوتا" لا تؤدي إلى خفض الأسعار على المستهلك الفلسطيني، وكما نحن بحاجة إلى تحقيق نجاح اقتصادي في جباية الضريبة ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية، نحن بحاجة إلى إصلاح شيء أخر لا يذكر إلا قليلاً هو "كوتا" السلع المستوردة، وعلى المفاوض الفلسطيني أن يضغط أيضاً من أجل رفعها وأن تشمتل على سلع جديدة.