الحرب على الهوية، وبذور الزيتون في القدس تنتظر المزارعين
الحدث: أحمد البديري
الدولة الفلسطينية المنشودة ستكون عاصمتها القدس، وليس أي مدينة أخرى. لعل هذه الفكرة تبدو تلقائية، لكن في حقيقة الأمر، المستوى السياسي والحكومي الفلسطيني لا يجتهد في تحويل الفكرة إلى واقع لعدة أسباب يطول شرحها. السؤال الذي نحاول الإجابة عليه هو، هل القدس بالفعل العاصمة، أو نريدها أن تكون العاصمة؟ أم مجرد شعار وطني أشبه بفكرة فلسفية تخلو من الواقعية السياسية وأقرب للمثل العليا؟
قياساً على ما سبق، تظهر عاصمتي رام الله وغزة كبدائل مؤقتة لتجذب، ليس فقط القيادات السياسية المؤثرة وصناع القرار الفلسطيني، بل حتى تجذب رأس المال لمدينة صغيرة على المستوى السكاني والجغرافي والتراثي كرام الله، فهي قرية من قرى الضفة الغربية، تحولت إلى بلدة بعد النكسة، وكانت أصغر من شقيقتها البيرة، لكن أوسلو عزز من مكانتها وفتح لها آفاق أن تكون عاصمة للشعب الفلسطيني في الضفة على الأقل.
مدينة غزة، وهي أكبر من حيث المساحة وعدد السكان، تمثل العاصمة للمحافظات الجنوبية كما يحلو للمستوى الحكومي تسميتها، ولكنها أيضاً تمثل عاصمة قطاع غزة أو الدولة الفلسطينية المحررة حصراً، وطبعاً غزة وأختها رام الله تحاولان، كمدن، اقتناص فرصة انهيار الأفق السياسي لدولة فلسطينية مستقلة لتثبيت أمراً واقعاً واستبعاد القدس سياسياً واقتصادياً كعاصمة.
ما هي العاصمة؟
العاصمة في العلوم السياسية هي: "المدينة التي تتركز فيها مقرات السلطة في الدولة، كما يوجد فيها مقرات الوزارات عادة، ومقر إقامة رئيس أو ملك أو حاكم الدولة عامة، فضلاً عن سفارات الدول الأجنبية، وفي أغلب الأحيان تكون العاصمة أكبر المدن من حيث السكان في الدولة، ويمكن أن تكون المدينة العاصمة، عاصمة لدولة أو عاصمة لمقاطعة أو حتى لمحافظة متى ما تركزت مقرات السلطة فيها."
العاصمة لساناً، مشتقة من عصم، وعاصم، وهو الجمع والاجتماع والملجأ. فالعاصمة هي التي نعتصم بها كمواطنين، وهي الجامعة لأطياف الشعب سياسياً، وأيضاً مذهبياً وعرقياً، وعنوان الاجتماع الأهلي للدولة.
الآن لو أننا ترجمنا كل ما ذكر على القدس، فلن نجد شيئاً مطابقاً، فحتى القنصليات الأجنبية الموجودة تاريخياً في القدس، بدأت بعض الدول بنقلها إلى رام الله، أو الدول التي تريد فتح قنصلية أو سفارة جديدة تختار رام الله وليس القدس.
أيضاً، القدس ما تزال المدينة الأكبر، فالحديث هو عن المدن وليس عن محافظات أو تجمعات سكانية مستحدثة وليست أصلية في تكوين المدينة. فالقدس كمدينة هي أكبر مدينة في الضفة الغربية من الناحية العمرانية المدنية في تكوينها.
العاصمة السياسية للتنظيمات الحزبية والفصائلية
منذ انتفاضة البراق عام 1929 والقدس هي عاصمة النشاط السياسي الفلسطيني، والقيادات السياسية كان لابد لها من موطئ قدم في القدس لو أرادت أن تكون فاعلة، تماماً مثلما فعلت عائلة عبد الهادي التي احتاجت القدس لخلق قوة سياسية رغم أنها كانت متمركزة قرب نابلس. كانت حركة فتح منذ الطلقة الأولى بحاجة إلى تنظيم مسلح في القدس، شكله الشهيد ياسر عرفات أو "أبو محمد"، اسمه الحركي في القدس في الأسابيع الأولى لاحتلال القدس. نواة حركة الإخوان المسلمين أيضاً انطلقت من القدس لبقية مدن الضفة الغربية، وإن كان الطلاب الغزيين قد نقلوا الفكرة بسبب القرب المكاني. اليسار الفلسطيني وتحديداً الحزب الشيوعي كانت قياداته قبل النكبة في القدس.
لا يوجد أي تنظيم أو حزب أو حركة سياسية قبل أوسلو، إلا وكانت القدس عاصمة ذلك الحزب ولو شكلاً أو إيحاءً، وتمركز قيادات فكرية وتنظيمية، كان ضرورة استقطاب أهل القدس. من أهم إنجازات الأحزاب والتنظيمات التي تستثمرها لاحقاً أنها تتمتع بقوة في العاصمة.
بيت الشرق آخر مقر للقيادة الفلسطينية في القدس
الانتفاضة الأولى عززت مركزية القدس كعاصمة سياسية، ودور المؤسسات مثل جمعية الدراسات العربية التي شكلت نواة بيت الشرق. فيصل الحسيني ومعه ثلة من المقدسين، أسسوا مؤسسة علمية فكرية، لكن في واقعها كانت نواة منظمة التحرير في الداخل في أوائل الثمانينات، بينما كانت تعاني المنظمة من حصار وانشقاق في بيروت، ومن بعدها في دول عربية استقطبت قياداتها. المؤسسة العلمية اسمها جمعية الدراسات العربية، والتي عمل فيها خلال ربع قرن أغلب القيادات الفلسطينية من الداخل، والذين عملوا من بعد ذلك في المؤسسات الأمنية أو الدبلوماسية أو الحكومية الفلسطينية.
لا يخفى على دارسي التاريخ الفلسطيني المعاصر الخلاف الذي كان بين الشهيدين عرفات وفيصل الحسيني على بيت الشرق كمركز لمنظمة التحرير، رغم وجود المقاطعة في رام الله، وهو الذي كان صراعاً أيضاً على الموارد المالية والعلاقات الدولية. فبيت الشرق الذي أسس لاستقبال منظمة التحرير في الداخل، تحول إلى منافس للقيادات من الخارج.
انتصرت المقاطعة في النهاية، وتراجع دور بيت الشرق، خاصة بعد وفاة الحسيني وإغلاق المقر السياسي الوحيد في القدس، ومنذ ذاك والقدس تبكي.
الدور الاقتصادي والثقافي للعاصمة
عواصم دول العالم غالباً ما تكون المركز الاقتصادي الأكبر، باستثناء عدد من العواصم مثل واشنطن لصالح نيويورك وبكين لصالح شنغهاي، فالأصل أن العاصمة هي القلب الاقتصادي النابض، ففيها البنوك الكبرى والبورصة والشركات، وليس دائماً قبلة للمصانع لأسباب بيئية أو تنظيمية. القدس كان فيها أهم مورد اقتصادي لفلسطين قاطبة، وهو موسم الحج وما يليه من زيارة للمسجد الأقصى أو زيارات المسيحين للأرض المقدسة. فالقدس عرفت تاريخياً بأنها فندق كبير ومركز تعليمي جامعي ديني، فالمدارس والخانات والفنادق كانت تدر المال على القدس وأهلها وتتوسع المنفعة لكل الوطن.
حصار مدينة القدس منذ عام 67 ومنع المسلمين من زيارة المسجد الأقصى وتبعات الانتفاضة الثانية وإغلاقها تماماً في وجه الفلسطينيين المسلمين، أفرغ العاصمة من أهم مورد اقتصادي، وهذا أضعف المدينة اقتصادياً. الخليل ونابلس كانتا دائماً المدن الصناعية والحرفية، وبقية مدن فلسطين كانت إما ساحلية تستفيد من السفن والصيد أو مدناً وبلدات زراعية.
القدس كان فيها أكبر عدد من المراكز الثقافية من صحف ومجلات ودور سينما ومكتبات ومعاهد تعليمية، ناهيك عن المدارس الدينية المنتشرة في البلدة القديمة، ولهذا من أراد ثقافة وعلوماً، كانت القدس هي العاصمة الثقافية. دور يافا في الأربعينات كان يقتصر على ثقافة غربية أو متوسطية، وكانت هامة، لكن القدس حافظت على الثقافة والعلوم الإسلامية إلى جانب الثقافة المستوردة من الخارج، والتي كانت مثار جدل ودراسة للمنظرين السياسيين.
الثقافة كانت تلم شمل الفلسطينيين من الناصرة والخليل وخانيونس ليجتمع أهل الثقافة فيها، لكن حصار المدينة حصر الثقافة في كل مدينة، وحتى الآن لا توجد عاصمة ثقافية لفلسطين، فمن يظن أنها نابلس فليس في نابلس فرق مسرحية منتظمة، ومن يظن أنها رام الله فلا يوجد مدرسة دينية واحدة، ومن يظن أنها الخليل فلا يوجد دار سينما، ومن يظن أنها خانيونس فلا يوجد فيها مجلة تطبع. أما القدس فكانت العاصمة، أي الجامعة لعلوم وثقافة هذا الشعب.
العاصمة الأبدية للشعب اليهودي
اجتهدت المؤسسات الصهيونية المختصة بالتوعية الصهيونية، إلى نشر ومن ثم تثبيت فكرة أن القدس كمدينة، هي العاصمة الأبدية لكل يهود العالم. الفكرة ذكية ونجحت، ولو جزئياً، بربط اليهود حول العالم بالقدس دون ربطهم بالصهيونية المرفوضة عند الكثير منهم. فيمكن أن تكون يهودياً معادياً للصهيونية ومرتبطاً بالقدس.
خدعة أخرى، وهذه المرة تستهدف اليهود ولكن الفكرة نفسها تؤسس لنهج واضح في تعظيم شأن المدينة إلى مكان كوني شمولي وطاهر، بعكس واقعية المكان الذي هو ببساطة، مدينة عربية المظهر ومشهورة بالصراع الدموي المستمر، وأحياناً ذكرها يستنهض ذكريات غير محترمة عند بعض اليهود، تحديداً الاستغلال المالي لجمع التبرعات التي تصب في جيوب الفاسدين أو رجالات الجيش.
حرب على الهوية الفلسطينية
كتب أبو إياد "فلسطيني بلا هوية"، ولعل السياسي ورجل المهمات الصعبة والحنكة السياسية لم يعش في القدس ولم يدرك مدى الصراع الذي نراه اليوم في القدس. في كل زقاق توجد أزمة هوية وصراع نفسي واجتماعي، وصراع بين مشروعين أو أكثر على مستوى الشرق الأوسط بين الأردن وفلسطين وإسرائيل، بين الإسلام والحداثة، بين العمارة الإسلامية والعمارة المستحدثة من أوروبا الشرقية التي يسكن فيها المتدين اليهودي الأشكنازي.
الصراع زاد تعقيداً وحدّة، والقدس هي أفضل مكان لدراسته عن قرب ودون "ماكياج"، ففي القدس، الكراهية هي الأعلى والعنف هو الأسوأ، والعنصرية الشنيعة بل وحتى رفض الآخر والتمنيات بحرقه في الجحيم دون رحمة. فالقدس هي عاصمة الصراع! ولو كان الفلسطيني يبحث عن هوية في القدس، لعله سيصعب عليه فهم أسباب التشدد والتصلب في كل قضية جانبية تخص هوية الفلسطينيين في القدس.
حتمية انتصار القدس في اللاوعي الفلسطيني
"لا دولة فلسطينية مستقلة دون القدس"، هذه ببساطة حقيقة يعلمها كل فلسطيني، فمهما جاهد وحارب وناضل الفلسطيني، فلن يعلن انتصاره بالاستقلال دون القدس. الحتمية التي لا تستطيع الفئة المستفيدة اقتصادياً من استبعاد القدس عن المشهد وإقصاء الفكرة تحت أي ذريعة. بل لا استقلال دون المسجد الأقصى، فهو عاصمة العاصمة، وهو الجامع الأكبر والمسجد الجامع والمكان الذي تعتصم فيه أفكار الصراع بين الخير والشر في العالم.
الفلسطيني لا يصلي كاليهودي، فاليهود حول العالم يصلون كل سبت بالقول: "في العام القادم نصلي في القدس"، ولكن الفلسطيني لا يصلي للعام القادم بل، هو مؤمن أن الأمر قريب، وبغض النظر عن انتصاره أو هزيمته، فهو مقتنع بحتمية أن القدس هي أصل الشجرة الفلسطينية، أي الزيتونة التي زيتها يضيء قناديل المسجد الأقصى الذي يضيء العالم المتوحش، ففي القدس بذور الزيتون تنتظر المزارعين، ولن ينبت الزيتون بعيداً عن القدس.