رؤىً في الفكرِ والسِّياسة
على الدَّوام كانت الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة - ومنذ أنْ انْبَثَقَت في منتصف القرن الثَّمن عشر - تختارُ عناوين برَّاقة لحروبها الدَّاخليَّة التي واكبت انبثاقها كقوَّة كبرى داخل القارَّة الأمريكيَّة بشمالها ووسطها وجنوبها؛ إبتداءً بمبدأ (مونرو) عام 1823م الذي جاءَ على لسان الرَّئيس الأمريكي الخامس؛ بخصوص تصفية وجود الهنود واستبعاد السُّود؛ وطرد وتصفية النُّفوذ الأوروبي القديم في وسط وجنوب القارَّة؛ والذي جاء فيه بخصوص وسط وجنوب القارَّة الامريكيَّة: ( فللأوروبيين القارَّة القديمة وللأمريكيين القارَّة الجديدة). وكذلك دأبت أمريكا وفي كل مراحل تدخُّلها في العالم على اختيار عناوين برَّاقة وزائفة لحروبها الخارجيَّة.
فمنذ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية في 4 يونيو (حزيران) عام 1776م؛ والَّذي عُدَّ إرهاصاً؛ لـ (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) في فرنسا عام 1789؛ أعطت أمريكا أكثر الأمثلة الدَّالة على النِّفاق فيما يتَّصل بمفاهيم الحريَّة بمعناها الأمريكي، كما أعطت لنفسها الحق الحصري في تفسير مباديء الحرِّيَّات الإنسانيَّة، ولقد بدا واضحاً ومنذ البداية ذلك التناقض الظاهر بين الإعلان النَّظري والسلوك العملي الأمريكي تجاه ذلك؛ فقد نصَّ إعلان الإستقلال الأمريكي وبسطوره الأولى على:
( لقد خُلِقَ النَّاسُ جميعاً متساوين، ومنحهم اللهُ حقوقاً لا تقبل التنازل عنها، كالحياة، والحريَّة، والبحث عن السَّعادة ). وبرغم ذلك فقد استمرَّ نظام العبوديَّة للزُّنوج قرناً من الزَّمن بعد ذلك؛ وذلك برغم هذا المفهوم النَّظري الأمريكي المُعْلَن للحريَّة؛ فكانت الحرب الدَّاخلية الأهليَّة الأولى عام 1865م بعنوان: ( إنهاء مرحلة المؤسسة الخاصَّة) أو إنهاء (نظام العبيد في الجنوب) إلَّا أنَّ ذلك لم يُنهِ نظام العبوديَّة بمقدارِ ما صاغه بشكلٍ آخر أكثر ظلماً؛ فقد نقل الزُّنوج من الخضوع لنظام السُّخرة، الى شكلٍ آخر من أشكال الإستغلال، وهو نظام الأجر المُتَدَنِّي إلى ما دون حدِّ النظام السَّابق للعملِ بالسُّخرة بالنِّسبة للسُّود؛ حتَّى أنَّ حركة الإصلاحي (مارتن لوثر كينج) وبرغم ما تمتَّعت به من صدقيَّة وتضحية؛ لم تفلح في إجراءِ التغيير المنهجي والجذري حتَّى الآن المُتَّصِلة بالمفاهيم العنصريَّة المستقرَّة في الذِّهنية الأمريكيَّة تجاه السُّود!!. حتَّى أنَّ إعلان الإستقلال، الذي أقرَّ مباديء الحريَّة والمساواة؛ قد وصفَ الهنود بأنَّهم (متوحِّشون بغيرِ رحمة، ووسيلتهم المعروفة هي شنّ الحروب وذبح الجميع !!). ولقد قال (سيمون بوليفار) وهو أحد أبطال تحرير أمريكا الَّلاتينيَّة في منتصف القرن التَّاسع عشر: (يبدو أنَّ الولايات المُتَّحِدة تسعى إلى تعذيبِ وتقييد القارَّة الأمريكيَّة بإسمِ الحُريَّة). كما ذكر ذلك "ناعوم تشومسكي" في كتابه "الآيديولوجيَّة والإقتصاد".
لقد ظهر أبشع أنواع النِّفاق والزَّيف فيما يَخُصُّ العلاقة بالهنود والزُّنوج على مستوى سياسات الولايات المتحدة الدَّاخليَّة منذ القرن التَّاسع عشر وحتَّى الآن؛ وكذلك الأمر في سلوك أمريكا في حدود القارَّة الامريكيَّة عموماً؛ ولقد ظهر ومنذ البداية ما يمكننا تسميته (بالمبدأ المُحرِّك) لجميع الإعتداءَات المستقبلية الأمريكيَّة عبر العالم؛ ذلك المبدأ يتَمَثَّلُ في: إعتبار أيَّ عدوان أو إبادة تقوم بها الولايات المتَّحدة الامريكيَّة هو نوعٌ من (الدِّفاع الشَّرعي عن النَّفس). لذا رأينا أمريكا تُدافع عن نفسها على بعد آلاف الأميال عن حدودها - في كوريا وفيتنام والَّلاوِس وكمبوديا والصُّومال وأفغانستان والعراق وغيرها من المناطق في قلب أمريكا الَّلاتينيَّة كذلك -ولقد كان هذا المبدأ المُحَرِّك المُسمَّى– حقُّ الدِّفاع الشَّرعي- هو أحد مبررات التَّدخل في شؤون العالم وشنُّ الحروب الأمريكيَّة تجاه الآخرين على الدَّوام.
ثُمَّ كانت مفاهيم؛ المجال الحيوي الكبير، واحتواء المد الشُّيوعي. ومواجهة المفهوم الشيوعي القابل للتَّوَسُّع؛ كما شرحته عام 1955م (مؤسسة ودْرو ويلسون، والإتحاد القومي للتخطيط) وذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ حيثُ قدَّم ذلك الشرح تعريفاً للتهديد الشيوعي على النَّحوِ التَّالي: (التَّهديد الشُّيوعي يتمثَّلُ في إمكانيَّة التَّحوُّل الإقتصادي لدولَةٍ ما أو مجموعَةٍ من الدُّول تَقِلُّ إرادتها أو إمكانيَّاتها في أنْ تلتَحِق أو تُصبِحُ مُكَمِّلةً لنظام الإقتصاد الِّليبرالي الصِّناعي الغربي). لذا يجب العمل على حمايتها من الوقوع ضحيَّة للشيوعيَّة بواسطة التَّدخل في شؤونها بوسائل القوَّة النَّاعمة الدُبلوماسية والسياسية والإقتصاديَّة أو بوسائل التدخل العسكري المباشر إنْ لَزِم الأمر.
فضمنَ مفاهيم ومباديء الدِّفاع عن المصالح الحيوية في المجال الكبير، وحقّ الدِّفاع الشرعي؛ وتحت عناوين وشعارات الدِّفاع عن الحريَّات، وإشاعة الدِّيمقراطيَّة، ومواجهة الأنظمة الدِّكْتاتوريَّة، ومكافحة تجارة المخدِّرات والإرهاب؛ جرى ويجري التَّدخُّل في العالم؛ وتُشَنُّ الحروب الامريكيَّة بمختلف أشكالها؛ إبتداءً بأمريكا الَّلاتينيَّة مروراً بالقارَّة الإفريقيَّة والشَّرق الأوسط؛ وانتهاءً بآسيا الوسطى وأقصى شرق آسيا؛ وذلك بهدف تحقيق غايَةٍ واحدَةٍ هي:إدامة الهيمنة السياسية والإقتصاديَّة والإستراتيجيَّة على العالم.