تجليات
اجتهد واضعو قواميس المعاني بين الإنجليزية والعربية، فأخرجوا لنا معنى الكلمة الإنجليزية، "Take away" بوصفها الوجبة الجاهزة للتناول خارج المطعم أو المحل أي المكان، والكلمة عادة ما تأخذ معناها من استخدامها تماماً كما الفعل.
ونحن إذ نريد التفكير في موضوع المقاطعة، خارج الصندوق لا خارج المكان، كون المكان، مكاننا لا مكان المحتل، علينا، وباعتبار أن المقاطعة بدأت مدنيَّة، ويجب إن أردنا نجاحها واستمرارها أن تتجلى في مدنيتها، أن نتوقف أمام مقولة ابن خلدون في مقدمته: "إن الإنسان مدني بطبعه، بمعنى أنه لا يستطيع العيش بمفرده بعيداً عن الاتصال والتفاعل مع الآخرين".
ومفهوم المدنيَّة يشير إلى كل أنواع الأنشطة التطوعية التي تنظمها الجماعة أو الجماعات المجتمعية، حول مصالح وقيم وأهداف مشتركة، وتشمل هذه الأنشطة المتنوعة، الغاية التي ينخرط فيها المجتمع المدني لتقديم الخدمات، أو دعم التعليم المستقل، أو التأثير على السياسات العامة.
وهنا يأتي السؤال، كيف يمكننا فعلاً لا شعاراً ، أن نؤثر في السياسات الاقتصادية، والمفاهيم الثقافية في الوعي الجمعي، سواء لدى رجل السياسة أو الاقتصاد؟ ويقال: إن الأخير هو المحرك الحقيقي للأول، أي أن الاقتصاد هو الفاعل الحقيقي في الحياة السياسية.
ولو توقفنا سواء قبل الإجابة على السؤال أو بعدها، أمام الخسائر الاقتصادية التي تكبدها المحتل، جراء انطلاق قطار المقاطعة، سنكتشف سريعاً كم هي مؤلمة ومؤثرة في آن، ما يعني أن المقاطعة ممارسة فعالة وفاعلة، ولكن كي تكون كذلك على المدى الاستراتيجي البعيد، يجب أن تستمر وتتعاظم، لا أن تتآكل!
نعم المقاطعة باتت تتآكل يوماً بعد يوم يا سادة، هي بالفعل تتآكل عندما يسيطر الجشع، ونحن نستمع ونتابع ذلك الجدل العقيم بين أصحاب المحال التجارية والمصانع الكبرى، والأول يطالب الثاني بمشاركته في زيادة أرباحه التي نجمت عن فعل المقاطعة.
وهي تتآكل حينما نجد بعض رؤوس الأموال لا تؤمن إلا بزيادة الأرباح، لتكفر بدعم الوطن والمواطن.
المقاطعة تتآكل، هذا ما يؤكده العديد من أصحاب المحلات التجارية الذين يعيدون الأمر للمستهلك الذي أصبح يتذمر من جودة المنتج المحلي، ذلك الذي تجده في كثير من الأحيان منتهي الصلاحية قبل موعد انتهائه المدون على المنتج نفسه، الأمر الذي يدفع المستهلك للسؤال: متى ستعيدون المنتج الإسرائيلي، "الأفضل بالنسبة له".
سمعت هذا الكلام كثيراً في أكثر من مكان، وكنت أظنه هدفاً تجارياً ربحياً، فقط لأصحاب هذه المحال، ولكن التجربة كانت الصفعة الكبرى والأقوى، حيث صادف أن اشتريت أحد منتجات الألبان المحلية الصنع، والمدون عليها أن صلاحيتها تنتهي بعد أكثر من عشرين يوماً، لأفاجأ برائحتها الكريهة عند فتحها بعد ساعات قليلة من شرائها. وعند إعادتها إلى المحل، يطلعني صاحب المحل على الكم الهائل من نفس المنتجات غير الصالحة رغم أن تاريخ انتهائها لم يأت بعد.
كيف لها أن تتعاظم وتستمر ونحن نعلم أن أساس المقاطعة يجب أن يُبنى على تمكين المنتج المحلي، فيما رأس مال المنتج المحلي لا يبحث إلا عن الربح المريح غير المكلف؟ لماذا لا يُرسل رأس المال بعض العاملين لديه لتلقي دورات تُحسن من جودة منتجه؟ ما السبل إلى تعاظم فعل المقاطعة ونحن حتى اللحظة لم نتمكن من حماية المستهلك؟ هل فعلاً ستتعاظم وتستمر والتهرب الجمركي لا يزال يأكل الأخضر واليابس في طريق التطور والإنتاج؟ هل نحن جادون، والكل يعلم أن قضية المقاطعة قضية تحرر وطني، لا انتفاخ أرصدة؟
والأهم، كيف يتسم فعلنا بالوطنية ونحن إلى الآن لم نعمل على مأسسة المقاطعة؟ كما أننا لم ننمِّ الصادرات؟ كيف وجيش العاطلين عن العمل في ازدياد يدفع البعض منهم للبحث عن فرصة للعمل في المستوطنات التي نقاطع منتجاتها؟
كلها أسئلة مشروعة تدفعنا للضغط من الأسفل إلى الأعلى على صانعي القرار من الساسة والاقتصاديين، أقله ليعلموا أن المقاطعة فعل ديمومة، لا فعل تيك أواي.