على مدى أيام قليلة، أُصبنا في حالة أقرب إلى الهستيريا في الجدل الذي احتدم حول مصطلح الكونفدرالية.
وفي حالة الخواء يكون الصدى أقوى من الصوت، ولعل هذا هو التفسير المنطقي لتداول مصطلح الكونفدرالية، كما لو أنه حقيقة سياسية جدية لم يبق عليها إلا أن تطبق على أرض الواقع خلال أيام أو أسابيع أو شهور.
وحول هذه الكلمة "الكونفدرالية" رُسمت سيناريوهات كلها متخيلة، وصارت هذه الكلمة مرجعاً للتحليل والاجتهاد، فإن زارنا أردني نجد من يقول إنه قادم من أجل الكونفدرالية، فننقسم تلقائياً بين مؤيد ومعارض وبين مصدق ومكذب، مع أننا نحن الذين ندعو ونستقبل ونولم، ونحن كذلك من انبرى لسانه وهو يناشد العرب جميعاً للحضور إلى فلسطين، حتى أننا اخترعنا من أجل ذلك مصطلحا بليغاً استخدمناه آلاف المرات... "إنكم تزورون السجين وليس السجان".
فلماذا إذاً كل هذا الجدل الصاخب والهستيري؟ ولماذا نختلف ونتخاصم كما لو أننا في ترف الخلو من قضايا أخرى أكثر أهمية وإلحاحا؟
الجواب.. لأننا حين نغادر مؤسساتنا ونهملها وهي المرجع القانوني والوطني لقراراتنا ومواقفنا، فإننا نخلق فراغاً لا يملؤه غير الشائعات، هذا إذا ما نظرنا للأمر بحسن نية، متجنبين القول إن هنالك من يصدر لنا القضايا كي تستنزفنا بعيداً عن قضيتنا الأساسية، وهو إنهاء الاحتلال، وفي الطريق ترتيب بيتنا الداخلي الذي هو بحاجة إلى ورشة عمل تبدأ دون إبطاء، وليس إلى اجتهادات كلامية لا أثر لها سوى المزيد من البلبلة والإرباك والفوضى.
إن الكلمة المسؤولة والمحترمة والصادقة التي تقال في أمر كهذا هي تلك التي صاغها الإجماع الفلسطيني بقرارات واضحة اتخذها مجلسنا الوطني حول هذه النقطة بالذات، وفي مجال الأولويات فالفلسطيني يريد تثبيت وتحقيق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، وبعدها تقوم مؤسسات هذه الدولة المنتخبة بتحديد مستوى وطبيعة العلاقات مع الأشقاء وفي مقدمتهم الأردن الذي تربطنا به علاقة خاصة تضافرت على صنعها وقائع الماضي وحاجات الحاضر وضرورات المستقبل.
إن المبالغة في التبسيط والحديث عن هذا الأمر البالغ الأهمية كما لو أننا بصدد طفل ضائع نبحث له عن من يلتقطه عن قارعة الطريق لإطعامه وإيوائه، فيه قدر كبير من الإهانة والاستخفاف بالفلسطينيين أصحاب التراث المشهود في كل المجالات وأهمها الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وفيه بالمقابل استخفاف بالدولة الأردنية والشعب الشقيق الذين هما أصحاب الحق في الحديث عن رؤيتهم لحاضرهم ومستقبلهم، ولا أخال أن الدولة الأردنية لم تقل كلمتها أكثر من ألف مرة، وخلاصتها أن العلاقة مع الأشقاء الفلسطينيين يحددها الطرفان الأردني والفلسطيني، ولا يسمح بأن تتشكل بالإملاءات من أي طرف كان، فالشعبان اللذان عركتهما التجربة، وطحنتهما الأحداث، بلغا ومنذ زمن بعيد سن الرشد بل والقدرة على اتخاذ القرارات الكبرى خصوصاً في الأمر الذي يهمهما وهو العلاقة الراهنة والمستقبلية.
فلنطوِ صفحة الحديث عن الكونفدرالية والاختلاف حولها، ولينصرف تفكيرنا وجهدنا نحو أولوياتنا الوطنية وكلها تواجه تحديات كبيرة ومعقدة، مستفيدين من دعم الأردن لمبدأ استقلالنا.
ولكي نتفادى غرق رأينا العام في بحر من الشائعات فلا مناص من العودة إلى مؤسساتنا التي لا مبرر لإهمالها وإخراجها من عملية صنع القرار لحاضرنا ومستقبلنا، ولنستذكر قرارات مجالسنا الوطنية التي كنا نتحاور ونتشاور شهوراً وسنوات قبل صياغتها والتي صارت في حياتنا كما لو أنها دستور لا يملك كائن من كان القدرة على تجاوزها.
إننا ومن أجل سد الأبواب والثغرات التي تدخل منها الرياح غير المواتية فلا مناص من العودة إلى هذه المؤسسات، وإذا لم نفعل ذلك، فإن كلمة من هنا وأخرى من هناك، تتلاعب بنا وتحدد بغير وجه منطق أو حق جدول أولويات حياتنا السياسية.