الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الموتُ موجا"لمحمد قسط:النصّ/الخطاب/مفهوم الكتابة

ضوء في الدغل

2016-06-09 02:03:05 AM
الموتُ موجا

 

بقلم:محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري

 

 

في مجموعته"الموت موجا" الصادرة عن فيسيرا 2014؛ يراهنُ محمد قسط على الاشتغال على الجملة المغايرة المربِكةِ/المرتبكة أحيانا داخل احتمالات شعرية قصيدة النثر المحتدمة دوما بأضواءٍ أخرى للقول؛ المشتغلة على فتح القصيدة أحيانا على مفهوم الكتابة حيث يستضيف النص الشعري خدعَ الفنون الأخرى كتوظيف تقنيات السرد والمشهدية الواصفة لحكاية الذات وهي تؤثث عالمها بالبحر منكشفا في لغة النص والرمل مزروعا في محركات الخطاب وهو يجعل بنية الكلام، ربما، تقولُ ما يخفيه ظاهرها، وأحيانا تدخلُ في اللا مقول في بعض مقاطع لا يهمها خيط الرؤيا بل التداعي والقبض على شظايا الحياة المتفلتة.

يضعنا الشاعر أمام متنٍ يغري بالقراءة من نظرين؛ الأوَّلِ النص الذي حقق إلى حدٍّ مهم ومختلف رهان شاعر القصيدة النثرية ممثلا في سؤال أنسي الحاج في مقدمة"لن":"هل يمكنُ أنْ يخرج من النثر قصيدة؟"، لأنَّ المتن يعرف كيف يتجنّبُ مزالق الوقوع في نثرية النثر لا شعريته، والنظرِ الثاني هو الخطابُ الذي يحرّكُ نصوص المجموعة بلغة الفقد الفادح لكل المباهج التي لا تزالُ تحت اليد والبصر ثم تغيبُ فجأة وكأنها أصلا، في النص، ليستْ جوهر الرؤيا إذا صحَّ أنّ نأخذ بالاعتبار الجنوب وهو المخيال الذي شكَّل بذكاءٍ متنا يشي أنه صحراوي الدم:

"صبارة تسدّ طريق المقهى/أتفادى اللغة/العشب ينمو على ساعدي/قبل برهة صافحت صفصافة/من قال للرصيف أقصر؟"(ص24.)

إنَّ أهمَّ أسئلة واجهتني أثناء القراءة هي:هل كان الشاعر وهو يكتب "الموت موجا" يكتب خطاب الصحراء بلغة البحر؟ أم كان يهجرُ خواءها الماديّ بوافر من تمظهرات المدينة(الأمكنة، طبيعة العيش...)؟ هل كانَ وهو يحتفي بالزرقة؛ "الكتابة تعني الأزرق"(ص16)منتبها إلى ملحها باعتباره المعادل الموضوعي والرمزي لعطش الرمل وكأنّ البحر صحراء أخرى؟ هل يمثّل البحرُ هنا مجرّد مسرح لحضور الصحراء من خلال عينيّ الرائي الجنوبي المسحورِ بالماء العذب لا بالمالح:

"...الرمل يتضوّع، تتقوّس الموجة أكثر،

وتتلاشى زهرة الملح في مهب الرذاذ. النوارس من بعيدٍ

تخيط الأفق، تمزج صفرة الأصيل بحزن المراكب."(ص7).

في مستوى النظر الأول؛ مستوى النصّ؛ سارتْ نصوص المجموعة على نفسٍ طويلٍ راسخٍ غالبا أفرز بعض الإعادة(المعجم خاصة)وأنتجَ أسلوبيةً تصف العالم بروح ملحمي حزينِ الخفايا، بل فتحتْ على مستوى الرؤيا حوارَ الأشياء الأكثر تناقضا(البحر والصحراء)داخل الصوتِ/الراوي المتحرّك في النصّ معتمدا على إبراز حركة الزمن من خلال وصف أمكنة المدينة بالمخيلة تارة، وباستناد هذه الأخيرة على معرفة موسيقية(في المتن وفي العناوين الداخلية)وظِّفتْ لتعديل أمزجة البحر وأمزجة الصحراء، ربما لتأثيث نوع من الصلح الرمزيّ من خلال الذاتِ وهي تتعاطى مع المدينة وكأنها الفردوس المفقود من رمل الأقاصي الذي يجعل منها في الآن نفسه فردوسا مفقودا دوما، لأنه غير مقصود لذاته بل لبعض مسرّاته، لبعض وقتٍ.

"صخرة صدرك..

بيانو متوحشة تنفث موسيقى جنائزية.."(ص59).

من هذا المقطع، نستطيع الحديث عن مستوى النظر الثاني إلى المجموعة، أي عن الخطاب. والمفتاح هو عبارة"صخرة صدرك" التي تبني تناصا مضادًّا لشطر تميم بن مقبل"ما أطيب العيش لو أنَّ الفتى حجر"، لكنّ محمد قسط يحسم الأمر بالإقرار بتحقق أمنية سلفه الشاعر الجاهلي. في هذه الاشتغالات يبرزُ خطاب الصحراء من خلال لغة الموجة والمدينة، يبرزُ قويًّا، مخيفا، مأساويا تماما كاليأس الذي توحي به الرمال أحيانا؛ اليأس من نهاية امتداداتها، ومن الهرب منها. تتحدثُ الصحراء في النصّ بخطابٍ فاجع رغم إيهامات النص بالفرحة، لأنها فرحة لا ثقة للذات في بقائها وثبوتها أمام الرمل واقعا وخطابا. ولهذا يستطيع القارئ-حين يركّز-أنْ يرى النقطة الزمنية ضمن مسار حكايات النصوص التي يتدخل فيها خطاب الصحراء مفارقا يكسرُ العين الواصفة المندهشة دهشة طفل، ويفضح حقيقة تلك المباهج التي تنسرب من بين الأصابع:

"في عنق القيثارة، قبّرات لوركا تترك غرناطة على ذمّة

الزرقة/على ذمّة الأزرق..

سنبلة المراثي تطرّز بحّة الزجل في حنجرة الهديل/

أليس للناي لثغة؟..

(يسأل هدهد لعبته الغياب)..(ص50).

أشرتُ سابقا إلى حضور معرفة موسيقية في المجموعة، من ناحية؛ معجما متكررا في كل النصوص، ومن ناحية أخرى تمثل نفور خطاب الصحراء من صخب المدينة من خلال توصيف مظاهرها بالموسيقى ومختلف آلاتها. بل كأنَّ بعض المقاطع تحاول أنْ تهدّئَ قليلا من الضجَّة باللجوء إلى العزف واللحن وفنونه، وتصل أحيانا إلى درجة اتخاذ الموسيقى روحا لتوصيف انهيار الواقع وهو يتدنّى ليصبح أكثر غربة وفقدا:

"حافية موسيقى موزارت

ترفل في البعيد الغضّ، تصوغ السرير الرثّ غيمةً

وإنْ أضاء الغياب في المرآة

كسر العطر الرطب في شقوق الزمن مزهريةَ الحزن..".(73).

أخيرا، لا بد أنّ محمد قسط، بعد "الموت موجا"، وهو تجربة مختلفةٌ، يكون على وعي تام بضرورة أنْ يكسب رهان الاستمرار بالإضافة التي تجعله مختلفا لغةً وخيالا وبناءً عن نصوصه السابقة.