لعنة الوثيقة
حين فشلت وزارة الثقافة الفلسطينية ومعها كامل أجهزة السلطة في انتزاع تصريح لي لزيارة الضفة الغربية في فلسطين المحتلة، قررت سريعاً الذهاب إلى لبنان، مسقط رأسي، لكن "وثيقة السفر اللبنانية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين" التي أحملها، تجعل الانتماء مربكا ومرتبكا –حسب ما سيأتي من حديث- ناهيك أن هذه الوثيقة المكتوبة بخط اليد، وتهددنا مطارات العالم المسموح بدخولها- وهي قليلة جدا- لا تعطي أي امتيازات سياسية أو دلالات ثقافية أوتسهيلات اجتماعية أو بعد رسمي لهذا الـ"مسقط"، فصاحبها لا يعامل كنازح، مثل بقية النازحين –وما أكثرهم- وصاحبها لا يتبع لجالية تابعة لدولة ما- رغم وجود مشروع دولة اسمها فلسطين- وينظر الكيان الصهيوني إلى هذه الوثيقة بخوف وقلق كبيرين، فدخول حاملها، وإن كان إلى رام الله وليس إلى قرية شعب في قضاء عكا، مسقط رأس أبي وجدي وجد جدي، يعني إثبات حق العودة، أو إيهام صاحبها بأنه عاد. ولهذا فهم يتجنبون ممارسة هذا الإيهام!
فندق وسفارة
لم أكن أعلم أن الفندق الذي اخترته لقضاء إجازتي فيه –لا تسمح لي السلطات اللبنانية بامتلاك بيت باسمي – هذا الفندق يقع بجوار سفارة "دولة فلسطين" في بيروت، وللصدفة، وجدت أن شرفته تطل مباشرة على مدخل السفارة، وبالصدفة وحدها علمت أن منزل السفير يقع إلى جانب السفارة، ولهذا كان الحراس ورجال الأمن الفلسطينيون، وهم كثر، ينتشرون في المكان بطريقة توحي بأنهم مستنفرون على الدوام.
حين نقلت لأحد المعارف عن فكرة راودتني لزيارة السفير، سألني: كيف؟ قلت، أتوجه نحو السفارة، أعرّف بنفسي وأطلب مقابلة السفير، فيتفحون البوابة التي يقف أمامها رجل أمن لبناني، وخلف البوابة يقف رجل أمن فلسطيني، وأدخل.
ابتسم الرجل وقال: أنت لا علاقة رسمية لك بالسفارة ولا بالسفير، لأنك لا تحمل جواز سفر فلسطيني برقم وطني، وبالتالي لست من الجالية الفلسطينية، وكل اللاجئين الفلسطينيين لا علاقة لهم بالسفارة سياسياً، أنت علاقتك بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذه تحتل مكتباً صغيراً داخل السفارة، لا يزوره أحد أيضا.
لاحظت وأنا أراقب مدخل السفارة من شرفة الفندق أن لا أحد يتردد على السفارة، وهذا يعني وجود إشكالية خطيرة بين الفلسطيني والسفارة من جهة، وبين الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى، رغم وجود حوالي 400 ألف فلسطيني يقيمون في لبنان! يخوضون صراعاً مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في محاولة لإجبارها أو إقناعها بعدم تقليص خدماتها الصحية والتعليمية.
وإذا كان الحديث (يجر بعضه) كما يقال، حضرت جلسة احتدم فيها النقاش حول دور الأونروا في لبنان، والسبل الكفيلة بالإبقاء على خدماتها التي تقلصت، وكان الحديث يدور عن اعتصام ينفذه مجموعة من الشباب أمام مؤسسات الأونروا منذ أربعة اشهر. سألت أحدهم وكان شابا متحمساً ويبدو عليه الصدق من نبرة صوته: هل حققتم شيئاً من الاعتصام؟ دُهش للسؤال في البداية ثم تجاوز الإحساس بالفشل وقال: "نعم، وحّدنا الفصائل الفلسطينية في الاعتصام..".
استغرق الوقت أربعة أشهر حتى يتوحّد الفلسطينيون في مسعاهم لمواجهة الأونروا!! أليس هذا مضحكاً؟
بيت أطفال الصمود
بعد وصولي بساعتين توجهت إلى قصر الأونيسكو لحضور مهرجان بمناسبة مرور أربعين عاما على تأسيس بيت أطفال الصمود (المؤسسة الوطنية للرعاية الاجتماعية والتأهيل المهني)، ولهذه المؤسسة فروع في مختلف المخيمات الفلسطينية في لبنان، وترأس مجلس إدارتها اللبنانية الدكتورة نجلاء بشور، ويديرها السيد قاسم العينة الذي وهب عمره لرعاية أبناء الشهداء، والوقوف إلى جانب الأسر الفقيرة والحالات الصعبة، وهذه المؤسسة تسد فراغاً أحدثه رحيل منظمة التحرير الفلسطينية – عسكريا واجتماعيا- من لبنان، تاركة الناس يتخبطون في تفاصيل يومهم بين مؤسسات ولجان تابعة لفصائل ينخرها الفساد، ولا يحصلون على المساعدات إلا بشق الأنفس، والذل أحياناً، رغم وصول أموال طائلة إلى هذه الجمعيات وإلى إقليم لبنان، إلا أن الناس تحصل (من الجمل أذنه).
مؤسسة بيت أطفال الصمود لا ترعى أيتام الفلسطينيين والأسر المستورة (المحتاجة) فحسب، وإنما تعمل على تجذير الهوية الفلسطينية من خلال محافظتها على التراث الفلسطيني، وتغرس فيهم الوعي الوطني.
أمسيات
بينما كنت أتابع مهرجان بيت أطفال الصمود، دعاني عريف الحفل لإلقاء قصيدة – وتحديداً قصيدة المخيم- للاستفادة من حضوري- كما قال. وكانت هذه المشاركة فاتحة برنامج مكثف لإحياء أمسيات في مناطق عديدة في لبنان، بدعوة من صالونات أدبية وملتقيات ومنتديات لبنانية؛ "ملتقى أصل الحكي"، وصالون التشكيلية خيرات الزين الأدبي، و"منتدى تجاوز" بتنسيق وتواصل الحركة الثقافية في لبنان، وهنا لا بد من توجيه تحية خالصة إلى الفنان الشاعر سليم علاء الدين، والشاعر بلال شرارة، رئيس الحركة الثقافية في لبنان، إضافة إلى أمسية نظمها منتدى شهرياد، برئاسة الشاعر الكبير نعيم تلحوق، وتنسيق الأديبة هبة عبدالخالق، وتقديم الشاعرة ليندا نصار، واعتذرت من صالون الشاعرة مي الأيوبي والشاعرة د. يسرى البيطار في مدينة طرابلس لضيق الوقت، فقد كان آخر نشاط حضرته قبل سفري بعشر ساعات هو معرض التراث الفلسطيني الذي نظمته دار النمر الثقافية في قلب بيروت، وركز على المطرزات الفلسطينية العريقة، ومنها أثواب عمرها أكثر من مائة عام.
أسرد هذه التفاصيل، لأن جميع المنتديات التي استضافتني كانت لبنانية، بينما ظلت مثيلاتها الفلسطينية معتصمة أمام مكاتب الأونروا!!
إشكالية الهوية
حين عدت إلى أبوظبي، فاجأتني ابنتي بسؤال أدهشني: أين ستستقر بعد انتهاء عملك؟ هل سأغادر أبوظبي معك وألغي إقامتي في هذه المدينة التي ولدت فيها وعشت فيها ولا أعرف مكاناً آخر سواها؟
قبل مغادرتي لبنان سألني أحد الأقارب: ماذا ستفعل بعد انتهائك من عملك في أبوظبي؟ قلت: سأعود إلى لبنان.
دُهش القريب وقال مباشرة: يا عمي أهل لبنان والفلسطينيون المقيمون يسعون لمغادرته وأنت تعود! ماذا ستفعل هنا؟
وكاد أن يضيف: أنت مجنون؟!
ماذا أفعل هنا، وماذا سأفعل هناك؟ وكأنني أسأل: أين المفر؟ ومقولة البحر من ورائكم والعدو من أمامكم لم تعد صالحة في زمن (الربيع العربي)، فالبحر الآن من أمامنا، يشقه النازحون عنوة بحثا عن وطن جديد، والعدو الآن من خلفنا لأننا أدبرنا وهو آخذ في مطاردتنا، والعدو ليس الكيان الصهيوني فحسب! (التفاصيل جارحة، لأنني قد أكون عدوي وأطاردني..).
قليلون يعيشون تحت هاجس هذا السؤال: (ماذا أفعل هنا، وماذا سأفعل هناك؟)، لأن غالبية الفلسطينيين استسلموا للهزيمة وللخونة وتجار القضية، هكذا بكل بساطة ومباشرة، الهجرة نحو الغرب باتت طموح الفلسطينيين وجزء كبير من العرب، بل أصبح النازحون ورقة ضغط لتحقيق مصالح سياسية وإستراتيجية.
هل أبدو انهزاميا حين لا أردد الشعارات الوطنية التي أفرغوها من معانيها؟ وحين لا أدعو إلى الصمود في الوطن؟ وحين لا أخدر الناس بالأمل؟ لا أدري. ولكن شرايين دماغي تكاد تنفجر حين أسمع أحد القادة يطمئننا: لا تقلقوا، التنسيق الأمني مع (إسرائيل) في أحسن حال!!!!!
أشعر أنني كتبت تقريراً سمجاً عن واقع أكثر سماجة، لكن التقرير الحقيقي سيجده المعنيون في أوراق اللواء يوسف دخل الله الذي زار لبنان في الماضي القريب، مُبتعثا من السلطة أو حركة فتح، لا فرق، في الفترة الماضية. ولكن، وبعيدا عن لغة التقارير التي أمقتها، سيبقى الهاجس يردد: من أنا هنا، ومن أنا هناك؟