أطنانٌ من الحَبْرِ سُكِبَتْ على الأوراق كأدَبٍ خُرافيٍّ يلبِسُ لَبوس الرِّوايات التَّاريخيَّة، وبِعْثاتٍ وطواقم من الباحثين والمُنَقِّبين الآثاريِّين ومنذ أواسط القرن التَّاسع عشر على الأقل وحتَّى الآن – تمَّ استخدامُهم وجرى توظيف جهودهم في مناخِ استثارة عناصر ومكوِّنات الماضي الَّذي طواه الغيبُ إلى الأبد من أجلِ توظيف الرِّوايات الشَّفويَّة التَّاريخيَّة المُناط بها خدمة المثولوجيا في دعم مزاعم الحاضر، وكطريقَةٍ فعَّالة وكأداةٍ مطلوبة في إدارة الصِّراع لكَسْبِ الحاضر بأدواتِ الماضي البائد.
وقد كان ذلك واضِحاً فيما يتَّصِلُ بدعمِ وتبرير الرِّوايات والحكايات المُتخيَّلة المُتَضَمَّنة في نصوصِ أسفارِ التَّوراة فيما يخصُّ تاريخ فلسطين القديم، وتحديداً تاريخ أورشاليم حيث تمَّ تصويرها كقطعةٍ من الفردَوْسِ المفقود تحت ركام الزَّمن وتراب الحقب التَّاريخيَّة المقدَّسة، وبحيث يبدو كلّ ذلك كرواية تاريخيَّة موثوقة تماماً تلتصِقُ بالقدس وأورشاليم وتمثَّلُ حلقة الوصل بين الماضي والمستقبل الغَيْبي الموعود، وتعطي تفسيراً وحلَّاً للُّغز اللَّاهوتي والسِّرِ الإلهي العظيم وفق تأويلات لاحِني النُّصوص الدِّينيَّة على اختلافِها واختلافِهم.
وقد دارَتْ كثيرٌ من نصوص العهد الجديد – الأناجيل على اختلافِها – وكذلك كثيرٌ من النُّصوص الإسلاميَّة حولَ رحى نصوصِ أسفارِ " يَشوع " وسفرِ الملوكِ الأوَّل وسِفرِ القُضاة في التَّوْراة كرواياتٍ تمزج النُّصوص الدِّينيَّة بالأدب السلطوي والنَّخبَوي والشَّعبي المُتَخَيَّل بالتَّاريخ في مزيجٍ من الأساطير والطُّقوس والمبالغات الخياليَّة.
وفي ذات السِّياق – عموماً - كان يتمُّ استخدام الأسطورةِ وتقديمها وتوظيفها بواسطة أدواتِ اللغة والأدب والخيال في كافَّةِ مستوياتِها لدى مُخْتَلَفِ الثَّقافات، بدءاً من سَرْدِيَّات النُّصوص المقدَّسة والميثولوجيا، إلى النَّثرِ اللُّغويّ، إلى الشِّعرِ، وشعرِ الملاحم والمراثي، وصولاً إلى استخدام الحاكيات الشَّعبيَّة الَّتي تولَدُ نتيجة وفي بيئةِ دوافع نفسيَّة واجتماعيَّة جمعيَّة خاصَّة بأمَّة أو مجتمع أو عِرْقٍ ما؛ بحيثُ يتمُّ في النِّهاية تقديم ذلك كلَّه كروايَةٍ تاريخيَّة تصلُ إلى حدود اليقين، فلا يأتيها الباطل - بحَسَبِ الإيمان الأعمى بها - من بينِ يَدَيْها ولا من خلفِها !!.
وفي مسارِ محاولة وضع الآداب والهياكل الثَّقافيَّة وعلم الآثار ونتائج التَّنقيبات الأثريَّة في خدمة الأساطير والنُّصوص الدِّينيَّة الملحونة؛ وفي عام 1865م تحديداً قرَّرَتْ الملكة فيكتوريا – ملكة بريطانيا العُظمى وفي غمرَةِ انتعاش التَّعاظم الإمبراطوري الإنجليزي، وتحت عنوان محاولة كشفِ الغازِ الكتاب المقدَّس بشقّيْهِ العهد القديم والجديد - قرَّرَتْ إنشاءَ صندوقٍ لتمويل البعثة الملكيَّة للتَّنقيب الأثري في فلسطين والأرض المقدَّسة تحتَ إسم " صندوق التَّنقيب في فلسطين Palestin Exploration Fund " ولأجلِ تلك الغاية تمَّ دعوة مجموعة من المتَبَرِّعين الأساسين مكوَّنة من مئتين واثنيْنِ وسبعينَ مُتبَرِّعاً للبدءِ بتمويل نشاطات البعثة، برعايةٍ مباشرة من الملكة فيكتوريا، وتمَّ تشكيل هيئة لتلك الغاية برئاسة أعلى مرجعٍ دينيٍّ في المملكة وهو أُسْقُف كانتربِيري وعضوية ثمانٍ وسبعين من أبرز شخصيات المجتمع الإنجليزي الدِّينيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة في ذلك الوقت، وافتَتَحَتْ الملكة التَّبَرُّعات بالمساهمة بمئة جنيه استرليني من أموالها الخاصَّة، وكان ذلك بالتَّنسيقِ مع السَّلطنة العثمانيَّة.
" بعدَ عامين من المسح التَّمهيدي ورسم الخرائط لقسمٍ كبير من أراضي فلسطين، وصلَتْ الحملة التَّنقيبيَّة الأولى الأولى برئاسة الكابتن وارْن – الضَّابط في الجيش الإنجليزي، وهدفها كان القدس ".. كانت القدس في ذلك الوقت محصورةً بين الأسوارِ الَّتي أقامها السُّلطان العثماني سليمان القانوني في القرن السَّادس عشر الميلادي مُقتَفياً أساسات سورها الرُّوماني القديم الَّذي بُني في مطلع القرن الثَّاني الميلادي على يدِ الإمبراطور الرُّوماني " هادِرْيان " كسور لمدينةِ " إيليا كابيوتيلينا " الَّتي أقامها هادريان فوق أنقاض أورشاليم القديمة – تلك الأورشاليم البلدة الصَّغيرة ومحدودة الحجم الَّتي كانت في أغلب الظَّن مركزاً إداريَّاً بسيطاً لمجموعةٍ من القبائل العبريَّة أو اليهوديَّة الَّتي قطَنَتْ هضاب منطقة يهودا – وقد كان هادريان قد سوَّى أورشاليم بالأرض بعد السَّيطرَةِ عليها مطلع القرن الثَّاني الميلادي، حيث لمْ تَكُنْ تلك البلدة ومن حيث المساحة الجغرافيَّة على الأقل تُضاهي المدن القديمة القائمة على السَّاحل أو في العمق الفلسطيني أو في الجليل أو في سوريا جنوباً وشمالاً عوضاً عن إمكانيَّة كونها عاصمة لمملكة عظيمة ابتدأتْ بالملك شاؤُل ومن ثمَّ داوود ومن بعده ابنه سُليمان في القرن العاشر قبل الميلاد.
وجَدَتْ البعثة أنَّ مساحة المسطبة الصخريَّة الأصليَّة أو الطَّبيعيَّة للتَّلةِ التي كان من المفترض أنَّها تُشَكَّلُ متن المدينة العظيمة وعاصمة مُلك شاؤل وداوود حيث تمتد مملكته من الفرات إلى النَّيل ومن بعده ملك سليمان الهائل الخُرافيّ العظيم، لا تتجاوز ثمانين متراً طولاً، وذلك قبلَ أنْ يقوم الامبراطور هادِرْيان ببناءِ جدار حول التَّلة لتوسيعها إلى ما يصل إلى أربعة هكتارات ونصف – 45000متر مربَّع – أي خمسٍ وأربعين دونم من الأرض، هي كلُّ المساحة الَّتي كان من المُفتَرَض في أحسَنِ الأحوال أنَّها عاصمة المُلْك العظيم لمملكة يهودا الَّتي وبحَسَبِ أسفار التَّوراة قد وقفتْ على تخوم امبراطوريَّة الحثيِّيين في جنوب الأناضول وعلى تخوم امبراطوريَّة الآشوريين عند الفرات حتَّى عمق دلتا النِّيل لدى مصر القديمة. في ذات الوقت نجدُ أنَّ مدناً مثل مَجدُّو في سهل يزراعيل – مرج بن عامر – أو مثل مدينة حاصور في أعلى الجليل أو كلكميش في سوريا أو جملة المدن السَّاحليَّة على السَّاحل السُّوري والفلسطيني كصور وصيدا وعكَّا وعسقلان كانت أكثر أهميَّة من قرى يهودا بما فيها أورشاليم وكانت تُقارب مساحاتها عشرات بل مئات الهكتارات وتلك المساحات هي أضعاف مساحة أورشاليم عاصمة ملك داوود وسليمان في القرن العاشر قبل الميلاد !!.
نقرأ في سفرِ يشوع وفي سفرِ الملوك الأوَّل أنَّه كان لدى سُليمان وفي وقتٍ واحد سبعمِئَةِ ( 700 ) زوجة وثلاثمِئَةٍ سريرة أو أمَة، إضافةً إلى زوجته بنت الملك الفرعوني – في حين أنَّ من المؤكَّد أنَّ ملوك الفراعنة كانوا يرفضون مصاهرة ملوك الممالك من حولِهم - !! وأنَّه كان لكلِّ واحدةٍ من هؤلاءِ الزَّوجات جناحا خاصَّاً بهاً في قصره، وأنَّ إيراداتِه وحصيلة ما كان يُجبى إليه من الذَّهب الخالص كانت بمقدارِ ثلاثة آلاف وخمسمائة وزنة كنعانيَّة أي بمعنى ثلاثة وثلاثين طنَّاً من الذَّهب، وأنَّه قد أسَّسَ جدران الهيكل بالأحجار الكريمة الَّتي تمَّ نشرها كما يتمُّ نشر حجارة البناء، وأنَّه اتَّخذَ من الذَّهبِ آنيةً وأسلحةً ودروعاً، وأنَّ الفضَّةَ في أورشاليم كانت كالحجارة لا يعبأْ إليها أحد، وأنَّ سكَّان يهودا الكثيرين جدَّاً وكذلك السَّامرة كان كلَّ واحِدٍ منهم في عهدِ مملكة سليمان يأوي تحتَ تينَةٍ له وكرمةَ عِنَبْ !!.
وقفَ رئيس بعثة التَّنقيب الإنجليزيَّة الكابتن وارْنْ، في عام 1865م مذهولاً يتمعَّن كيفَ يمكن لهذه التَّلة أنْ تَتَسِعَ لكلِّ تلك الخُرافات التَّوراتيَّة ولهيكل سليمان وقصوره واسطبلاتِه ونسائه وسراريه الألف.. كما وقفَتْ عالمة الآثار الإنجليزيَّة المرموقة " كاثلين كينيون " ذات الموقف عام 1961م، تتمعَّن نتيجة التَّنقيبات الأثريَّة الَّتي قامت بها عبر سنواتٍ طويلة والَّتي كانت تؤكِّدُ حقيقة أنَّ أورشاليم لمْ تكن في القرن العاشر قبل الميلاد بداية عصر الحديد – وإبَّان ملك سليمان - سوى قرية صغيرة تشي كلّ اللُّقى الأثريَة فيها بمحدوديَّة عيشِها وبفقرِ ساكِنيها.. لكن تمَّ إخراس كلا صوتَيِّ وارنْ و كاثلينْ كينيون فيما بعد برغم محاولتهم مجاملة نصوص التَّوراة في كثيرٍ من الأحيان، وكذلك جرى توظيف ما قاله عالم الآثار الأمريكي تومبسون حول ذلك في غير وجهته، كما تمَّ فعل ذلك مع آخرين بحيثُ كان يتمُّ على الدَّوام لَيِّ أعناق الحقائق الآركيولوجيَّة لصالح نصوص الميثولوجيا التَّوراتيَّة !!.
استمرَّ ذلك ويستمر.. حتَّى جاء وعلى سبيل المثال " يسرائيل فلنكينشتاين " عالم الآثار والآركيولوجي الإسرائيلي المرموق ليعلن عام 1999م وبعد سنواتٍ من التنقيب والمسح عن رأيه الأكاديمي والعلميّ وفي ندوةٍ موثَّقة ومطبوعة مُداخلَاتِها في جامعة تل أبيب؛ أنَّ رواية التَّوراة فيما يتعلَّق بتاريخ فلسطين وأورشاليم ومملكة داوود وسليمان لمْ يقم عليها دليلٌ يمكن الاستناد إليهِ جرَّاء المسوح والتَّنقيبات الأثريَّة، كما لمْ يقم عليها دليل من نصوص الكتابات المصريَّة ومن رسائل تل العمارنة التي وثَّقت تاريخ الأُسَرِ الملكيَّة الفرعونية ومراسلاتها مع ملوك الممالك الأشوريَّة والسُّوريَّة والكنعانيَّة والحثيَّة والرَّافيديَّة !!.
حتَّى خَلُصَ " فلنكنشتاين " إلى القول: " حتَّى لو افترضنا أَنَّ شخصيَّةَ كلٍّ من داوود وسليمان كانت شخصيَّات تاريخيَّة حقيقيَّة، فهم في أحسنِ الأحوال لمْ يكونوا سوى شيوخ قبائل عاشت أو سكنَتْ وتنقَّلتْ ضمن نمط حياةٍ رعوِيَّة فوق الهضاب المركزيَّة الفلسطينيَّة في يهودا والسَّامرة في بداية عصر الحديد في القرن العاشر قبل الميلاد " – ويقصد بذلك جبال نابلس والقدس وبيت لحم والخليل !!.