اطلعت على المقال المنشور في القدس العربي، لكاتبته حنين عمر، ولم يقنعني ما ورد فيه من محاولةِ مطِّ ومغطِ الحجج كي نحاول تبرئة درويش من "توارد الخواطر" الشديد بينه وبين نيتشه بشأن أن الأول أخذ عبارة "على هذه الأرض، سيدة الأرض، ما يستحق الحياة" من الثاني.
كانت الحجة المساقةُ هنا واهيةً، لا تُبرئُ درويش بقدر ما تلقي اللوم على المترجم، وأن خللاً في الترجمةِ هو ما أدى إلى اللُّبسِ الذي قاد إلى اتهام درويش بأنه اقتبس حرفياً عبارة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" من نيتشه؛ ذلك أن تفنيد حجتها سيكون سهلاً من قبل ممتهن الترجمةِ والأدب معاً.
الكاتبة التي استندت إلى ترجمة حرفية لصديقها الشاعر إبراهيم ونوس لنص نيتشه الأصلي، وإلى ترجمتين أخريين صادرتين عن دار الجمل الأولى لكتاب "ديوان نيتشة" للمترجم محمد بن صالح" عام 2009، والثانية لعلي مصباح "هكذا تكلم زرادشت" الصادر أيضا عن دار الجمل 2007، جاءت على النحو التالي:
«ومع أنني شهدت الكثير، ولكن مع ذلك لم يكن هذا كافيا لي، نعم.. لقد اكتشفت بأن الحياة تستحق أن تُعاش فوق هذه الأرض.. يوم واحد مع زرادشت احتفال واحد، علمني كيف أحب هذه الأرض».
وكانت ترجمة مـحمد بن صالح: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة: يوم واحد قضيته مع زرادشت علمني أن أحب الأرض».
أما ترجمة علي مصباح فكانت: "الحياة فوق هذه الأرض أمر جدير بالعناء، يومٌ واحدٌ، حفل، واحدٌ، مع زرادشت، علمني كيف أحب هذه الأرض."
ما أوردته الكاتبه من نصوص مترجمة، لا تُبرئ درويش بقدر ما تُدينه، ذلك أن الدرس الأول الذي تعلمته في الحياة العملية، وفي الجامعة عندما كنت طالبة في كلية الآداب تخصص لغة إنجليزية وأدابها وحصلت إلى جانب درجتي الجامعية الأولى على دبلوم ترجمة، أنه من الصعب جداً إن لم يكن مستحيلاً أن تتطابق ترجمتان لنفس النص من قبل مترجمين مختلفين. أي أننا لو قمنا بإعطاء نفس النص المراد ترجمته لأكثر من مترجم فإننا لن نحصل على ترجمةٍ واحدةٍ متطابقة، وإنما سنحصلُ على ترجمات متشابهة قريبةٍ من بعضها، وقد تصل إلى حد التشابه الكبير لكنها لا تبلغ حد التطابق التام. ذلك أنه من الصعوبةِ بمكان أن تجتمع الحصيلة اللغوية والمعرفية بذات القدر والكفاءة عند مترجمين في نفس الوقت وفي نفس اللحظة ليُنتجا لنا نصا متطابقاً.
علاوةً على ذلك فإن الأمر يكون أصعب إذا ما أردنا ترجمةَ نص أدبي، ويزدادُ صعوبةً إذا كان شعرا.
ولأني لستُ في سياق اتهام أو تبرئة درويش، استعنتُ بصديقي الشاعر خالد المعاني، صاحب دار الجمل للنشر، الذي قادني إلى المترجم علي مصباح، الذي كان له رأيه الذي قاله عن الجملة المذكورة والتي جاءت على النحو الآتي:
"جملة درويش ("على هذه الأرض ما يستحق الحياة")، وإن جاءت تحمل نفس الفكرة تقريبا، قد ابتعدت عن جملة نيتشة من حيث الصياغة والعبارة، بل حتى من حيث المعنى. فهاك فرق على ما يبدو لي بين "الحياة على هذه الأرض جديرة بأن تعاش"(نيتشة) و"على هذه الأرض ما يستحق الحياة" (درويش)، بالنهاية يظل من حق الشاعر، كل شاعر، أن يستلهم فكرة أو مقولة من شاعر أو فيلسوف سابق، وذلك ما فعله كبار الشعراء دوما، والتراث الشعري الكوني يعج بمثل هذه الاستلهامات، دون أن يخطر بذهن أحد أن يتهم هذا أو ذاك بالسرقة. ولنا مثال في نيتشة نفسه الذي كان يستلهم الكثير من مقولات فلاسفة وشعراء من القدامى ومن معاصريه أيضا؛ أحيانا يجري تغييرا طفيفا على الصياغة، وأحيانا لا يغير شيئا فيها . هل لام أحد نيتشة واتهمه مثلا بسرقة الجملة الفرنسية المعروفة والمتداولة حتى على أفواه العامة: La vie vaut la peine d’être vécue*، وأضاف لِمَ لا يلتقي درويش مع نيتشة في هذا الحيّز أو ذاك من ذات الحيرة التي يعيشها كلاهما، وعلى نفس الطريق الماضية في المساءلة والتساؤل التي يجريها كل منهما من موقعه ؟ وإذا ما تمّ "وقع الحافر على الحافر"، بحسب عبارة القدامى، فذلك ليس بالأمر المكروه أو المذموم؛--ناهيك أن الأمر لم يحصل على هذه الشاكلة في علاقة البيت الشعري لدرويش مع بيت/جملة نيتشة! بل ربما لا يتجاوز الأمر كون اجتهاد مترجم أشعار نيتشة ، - ربما وقْع جملة درويش على ذهنه ووجدانه- هو الذي أحدث هذا التماثل."
ما أردتُ قولهُ هنا، أن حُبنا لدرويش وحكمنا على موهبتِه الشعرية لن يتأثر إذا علمنا أن محاكاةً ما كانت قائمةً بينهُ وبين نيتشه، أو بينه وبين لوركا في عبارة "خضراء، خضراء". ما يعنيني هنا أن درويش كان يستطيعُ أن يجعل أي نص فلسطينيا وإنسانياً، درويش كان باحثاً بقدرِ ما كان شاعراً، وقد استلهم من التوراة كما استلهم من الانجيل كما استلهم من نادلةِ المقهى، وكما استلهم من عدونا، الانسان الشاعرُ دائمُ البحث والاطلاع، وهكذا كان درويش يبحثُ عن معنى وجوده وموتهِ معاً، ويبحثُ عن معنى وجودهِ مع الآخر، والآخر هنا بمعنى "الإنسان الآخر"، من منطلق أننا نتقاسم تجربتنا الإنسانية معا ونتشاركُ إرثها ما دمنا نعيش معا على هذه الأرض.
وسأظلُ أحب قصيدة لاعب النرد ومقطع "أحبُك خضراء، يا أرضُ خضراء، تُفَّاحَةً تتموَّج في الضوء والماء . خضراء." رغم حبي لقصيدة لوركا "أغنية السائرة في نومها": "خضراء ، أحبـك خضراء خضراء الريح، خضراء الأغصان"
فهذه اسبانيةٌ تماما مثلما تلك فلسطينيةٌ تماما.
* La vie vaut la peine d’être vécue: تعني الحياة تستحق أن تُعاش.