هكذا إذن؛ يمكننا القول إنَّ كل شيء يتصل بعناوين الحروب الأمريكية في الخارج؛ قد بدأ تقريباً مع إرساء مبدأ ( مونرو ) الرَّئيس الأمريكي الخامس عام 1823م؛ والذي تناول فيه مسألة مستقبل جنوب ووسط القارَّة الأمريكيَّة وعلاقتها بالقوى الأوروبيَّة القديمة؛ وبعلاقتها المستقبلية ضمن مفاهيم المجال الحيوي للنفوذ الأمريكي في نطاق القارَّة الأمريكيَّة بمجملها فقد جاء في الرِّسالة التي وجهها للكونغرس في الثاني من ديسمبر من عام 1823 م: " فللأوروبيين القارَّة القديمة- يقصد قارة أوروبا – وللأمريكيين القارة الجديدة – ويقصد القارَّة الأمريكيَّة " كما ذكرنا سابقاً.
وقد شرح وزير الخارجية ( روبرت لانسينج ) في عهد الرئيس ألأمريكي ( ويلسون ) معنى مبدأ ( مونرو ) في أحد مذكراته - كما يذكر ذلك نعوم تشومسكي، في كتابه: الآيديلوجيا والإقتصاد صفحة 15،16 – بالقول: " تدافع الولايات المتحدة عن مصالحها الخاصة عندما تدافع عن مبدأ مونرو، لأنَّ سلامة باقي الأمم الامريكيَّة – يقصد سكان وسط وجنوب القارَّة - ثانوية بالنسبة للولايات المتحدة، ولا تُعتبر هدفاً في حد ذاته. وبرغم انَّ ذلك يبدو في منتهى الأنانية؛ فإنَّ مؤسس هذه العقيدة - يقصد الرئيس مونرو - لم يكن لديه أي دوافع أخرى أكثر عُمْقاً؛ أو أكثر كرماً لتقديمها ".
وفي هذا السياق كانت تتشكل معالم وملامح السياسة الخارجية الأمريكيَّة تجاه مجمل وسط وجنوب القارَّة الأمريكيَّة وتجاه علاقة القوى الأوروبيَّة بتلك القارة؛ والتي استمرَّت قروناً قبل إعلان إستقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن الحكم الإنجليزي في شمال القارَّة عام 1776م؛ إنَّه سياق التحايل لإبعاد القارَّة الأمريكيَّة عن القوى التقليدية التي كانت موجودة هناك منذ أنْ تمَّ اكتشاف القارَّة قبل خمسة قرون من ذلك الوقت؛ وهذه القوى تتمثَّل بشكلٍ أساسي في كلٍّ من إسبانيا والبرتغال. كان يجري ذلك التحايل بهدفِ تحيقيق وتعميق سيطرة الولايات المتحدة؛ والمُضي في تغلغلها الإقتصادي والسياسي والإستراتيجي في القارَّة؛ وفي نفس الوقت إبعاد ومن ثمَّ إقصاء كلاً من إنجلترا وفرنسا عن أي دورٍ في استغلال البترول أو الثروات الطبيعية هناك بدلاً منها فيما بعد؛ بهدف احتكارِ استغلال ثروات القارَّة؛ وقد كان انفجار زورقٍ حربي أمريكي بعد ذلك بوقتٍ قصير؛ في ميناءِ " هافانا " في كوبا؛ مبرراً وحجَّة لشن الحرب المباشرة ضد النفوذ الإسباني في أمريكا الجنوبية؛ فقدوا بنتيجتها السيطرة على كلٍّ من كوبا والفلبين وبورتوريكو؛ حيث أصبحت ضمن النفوذ الأمريكي.
يبدو هذا التقديم للسياق التاريخي الذي واكب انبثاق سياسة الولايات المتحدة داخل القارَّة الأمريكيَّة ضروريَّا ؛ لِجِهَةِ فهم معنى العزلة عن المشهد الدولي التي عاشتها الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت حتى قرب انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918م؛ فالولايات المتحدة لم تدخل الحرب إلَّا في عام 1917م مع العلم أنَّ تلك الحرب كانت قد بدأت منذ عام 1914م. وقد دخلت الحرب في مرحلةٍ كانت أوروبا قد تهشَّمت فيها وتحطَّمت؛ ودخلتها وهي تُدْرِك انَّ تلك الحرب كانت إفرازاً لمرحلَةٍ تنهارُ فيها إمراطوريَّات قديمة كتركيا؛ فيما تبحثُ فيها قوىً جديدة أخرى عن دورٍ لها كألمانيا وإيطاليا وروسيا القيصرية؛ فيما تحاولُ أخريات الحفاظ على وجودها العميق والقديم عبر العالم كبريطانيا وفرنسا.
وقد يبدو ذلك ضروريَّاً أيضاً؛ لجهة فهم ملامح الإستراتيجيَّة والسياسة الخارجية الأمريكية على مستوى العالم بعد ذلك؛ ولفهم تلك المباديء والقواعد التي نظمت تلك الإستراتيجيات والسياسات؛ إبتداءً من نهاية الحرب العالمية الأولى؛ مروراً بالحرب العالمية الثانية؛ ووصولاً الى مرحلة الحرب الباردة؛ وليس انتهاءً بكل المشهد الدولي الذي تشكل في أعقاب انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم في أعقاب انهيار وتفكك الإتحاد السوفييتي والمعسكر الإشتراكي؛ وزوال حلف وارسو من الوجود كمنظومة عسكرية كانت تقف في مواجهة حلف النَّاتو بقيادة الولايات المتحدة؛ واستحداث عناوين جديدة بعد ذلك وحتى الآن للحروب الأمريكية؛ ولاستمرار دوران عجلة الصناعات العسكرية الأمريكية ولتبرير إقرار ميزانيات الدِّفاع الضَّخمة؛ والإنفاق العسكري المهول؛ خدمةً للمجمع الصناعي العسكري؛ وخدمةً لسلطة الشركات الأمريكية العملاقة العابرة للقارَّات؛ التي تحكم سياسات الدول الصغيرة والضعيفة عبر العالم وتستغل اقتصاداتها؛ وفق منهج الإلحاق الإقتصادي عبر المعونات المشروطة سياسياً؛ والقروض التي يترتبُ عليها مقداراً هائلاً من الفوائد؛ عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والهيئة الأمريكية للتنمية والتطوير؛ التي تشترط على الدول التابعة والنامية إمضاء برامج إعادة هيكلة إقتصاداتها ببرامج الخصخصة؛ وبإلزامها بتنفيذ مشاريع التنمية التي تستهدف قطاعات الخدمات دون القطاعات الإنتاجية الحقيقية. مما يُغرقها بشكل متزايد ومركَّب في مزيدٍ من الدُّيون والفوائد.
بهذه السياسات وتحت هذه العناوين أحكمت الولايات المتحدة سيطرتها على جنوب القارة الأمريكيَّة وبررت سلوكها هناك؛ واستمرَّت في محاولاتها للسيطرة على كثيرٍ من السَّاحات عبر العالم طيلة عقودٍ مضت ومنذ أنْ تمَّ إطلاق مشروع مارشال لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والذي كان - في حقيقته - عنواناً للإستثمار والإستغلال الجشع داخل القارة الأوروربية ومدخلاً للسيطرة على إقتصادات العالم. وكانت الولايات المتحدة وعلى الدوام تحوز على العناوين الخادعة لسياساتها كوسائل وروافع لإدامة سلوك الهيمنة على السياسات الدولية والسيطرة على مقدَّرات العالم... وهذا سيكون مدخلنا الى الجزء الثالث.