الحدث- رام الله
ما إن تقرأَ عن منافع الصيام في كتاب أو مقال أو موقع للإنترنت إلا وتجد أنَّها تشير إلى أنَّ الصومَ يخلِّص الجسمَ من السُّموم الموجودة فيه ويطردها للخارج، وهو بذلك يريح الجسمَ من الآثار المحتملة لهذه السموم، والتي يُقال إِنَّها قد تكون عاملاً من عوامل حدوث السرطانات المختلفة في الجسم التي كثرت في الأزمان المتأخِّرة. كما أنَّها قد تكون عاملاً في نشوء أمراض، وعلل أخرى حارَ فيها الأطبَّاء.
وكثيرٌ ممَّن كتبوا في هذا المجال ينقلون من كتابات بعض أطبَّاء الطب البديل قولَهم مثلاً: (إنَّ كلَّ إنسان يحتاج إلى الصيام، وإن لم يكن مريضاً؛ لأنَّ سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض، وتُثقِله ويقلُّ نشاطُه؛ فإذا صام، خفَّ وزنُه، وتَحلَّلت هذه السمومُ من جسمه، وذهبت عنه، ليصفوَ بعدَ ذلك صفاءً تاماً).
فما قصَّةُ السُّموم هذه؟ وهل يخلِّصنا الصومُ حقيقةً منها؟
فلنبدأ أوَّلاً بذكر مصادر السموم في جسم الإنسان:
فالهواءُ مليءٌ بالسُّموم التي نستنشقها، من عوادم السيَّارات، وغازات المصانع وغيرها، وهذا يختلف من بلدٍ لآخر ومن مكان لآخر.
سواءٌ أكان من المواد التي تُضاف للأطعمة، أثناء زراعتها وتربيتها بالكيماويات، أو أثناء طهيها، أو تصنيعها، بإضافة النَّكهات، والألوان، ومضادَّات الأكسدة، والمواد الحافظة.
من الجراثيم والفيروسات والفطريَّات الكثيرة في الكون، والتي تدخل أجسامَنا كلَّما سنحت لها فرصة، وما تنتجه من مُفرَزات سامَّة.
فمثلا أكسدةُ المواد الغذائية (البروتينات والدهون والكربوهيدرات) يَنتُج عنها مجموعةٌ من المواد السامَّة، مثل اليُوريا والكرياتينين والأمونيا (مركَّب النِّتروجين) وغاز ثاني أكسيد الكربون والصفراء والكيتونات وغيرها.
بعض الأدوية التي يتناولها الناسُ بغير ضابط، وبغير وصفة طبِّية قد تكون مصدراً لإدخال السموم إلى الجسم.
حين توجد أيَّ مادَّة سامَّة في الجسم تهجم عليها كريَّات الدم البيضاء التي لها خاصية مُميَّزة تُمكِّنها من معرفة الأجسام الغريبة من المواد السامَّة والجراثيم والخلايا التالفة وتميزها من السَّليمة.
ولو حصل أن تمكَّنَ جسمٌ غريب من الإفلات من الخلايا البيض، وهجم على خلية من خلايا الجسم ودخلَها، فداخل كلِّ خلية من جسمنا أكياس هاضمة تُدعى الليزوزومات أو اليَحلولات البيروكسيَّة، تحوي داخلها إنزيمات هاضمة كتلك التي تهضم الطعامَ في الجهاز الهضمي.
ويقوم الكبدُ بعملية إزالة السمِّية لكثير من المواد السامَّة، وذلك حينما تصل إليه هذه الموادُ عبرَ الدم.
ويطرد الجسمُ كثيراً من السُّموم للخارج فيرتاح منها، ومن أشهر هذه السُّموم غاز ثاني أكسيد الكربون السام، حيث يُخرِجه الجسمُ بالتنفُّس. أمَّا الجهدُ الكبير في إخراج السموم فيقع على الكلى، حيث إنَّها تنقِّي الدمَ الذي يمرُّ فيها من السموم، وتُخرِجها عبرَ البول.
كما يقوم الجهازُ الهضمي بدوره في إخراج الجراثيم عندما تتكاثر عليه في الأمعاء، فإنَّه يصب عليها مُفرَزاته الكثيرة فتنجرف مع الإسهال للخارج.
ومن وسائل الإفراغ اللطيفة ما يقوم به العَرَق، حيث يُخرج كمِّيات -وإن كانت قليلة- من بعض المواد السامَّة.
ومع كلِّ الاحتياطات الأمنية المكثَّفة السابقة، إلاَّ أنَّ بعضَ أعضاء الجسم وخاصَّة المخ، يكون حولَه غِشاء دقيق وحساس يحوطه من جميع الجوانب، ولا يسمح بدخول السموم إليه.
الأمرُ ليس قطعياً ولا واضحاً من الناحية العلمية، وهناك حاجةٌ إلى مزيد من الدراسات، لكن هناك بعض التفسيرات النظرية كالتالي:
ينصُّ هذا التفسيرُ على أنَّه تجري في الصيام أكسدةُ كمِّيات هائلة من الشحوم المختزَنة في الجسم، وبذلك تُستخرَج منها السمومُ الذائبة فيها، وتُزال سُمِّيتُها، ويَتخلَّص منها مع فضلات الجسد. ويطلق على هذه الحالة "حالة الكيتونية" أو "الحماض الكيتوني. وهذا التفسيرُ يقول به أنصارُ الطبِّ البديل، ويعتمدون عليه كثيراً.
وبعضُهم، بل كثيرٌ منهم، يرى أنَّ فائدةَ الصيام لا تحصل للصائم إلاَّ بالوصول إلى مرحلة الكيتونية هذه. وهي تعني باختصار أكسدةَ كمِّيات كبيرة من الدهون بالصيام، ولمدَّة كافية حتَّى تَنتُج عنها مادَّةٌ تُسمَّى "الكيتونات" أو "الأجسام الكيتونية.
وهم يؤكِّدون على أنَّ هذه الحالةَ لا تتحقَّق إلاَّ في صيام الماء الطويل المديد؛ لأنَّه هو الذي تحصل فيه أكسدةُ الدهون بكمِّيات كبيرة. أمَّا الصيامُ القصير أو المتقطِّع، ومنه الصيام الإسلامي، فإنَّ الجسمَ لا يصل فيه إلى مرحلة الكيتونية؛ لأنَّه لا يجد نفسه مضطراً لأكسدة الدهون وإطلاق مادَّة الكيتونات الضارَّة.
وهذا التفسيرُ هو أحد التناقضات الصارخة بين الطبِّ الحديث والطبِّ البديل؛ فالأطبَّاء يَرَون في حالة الحموضة الكيتونية حالةً مرضية، يجري الكشفُ عنها بالتحاليل، وتَستدعي التدخُّلَ السريع؛ لأنَّ الكيتونات نفسها موادُّ ضارَّة، إذا زادت نسبتُها في الجسم.
ثمَّ إنَّ هذا التفسير تغلب عليه الإنشائية، بل إنَّ النظر المنطقي ينقضه، حيث إنَّ أكسدةَ مخزون الدهون يعني -من الناحية النظرية على الأقل- وجودَ السموم المحرَّرة بكمِّيات كبيرة في الدم في وقت قصير، فيزداد العبءُ على الجسم ولا يقلُّ. وبعضهم يقول إنَّ إطلاقَ السموم حالةٌ مؤقَّتة وضرورية، ثم يتخلَّص منها الجسمُ بسرعة وكفاءة.
وأظنُّ أنَّنا لسنا مضطرين للأخذ بهذا التفسير، حتَّى تكشفَ لنا دراساتٌ علمية معتمَدة ما خفيَ علينا من بديع صنع الباري سبحانه.
وهذا تفسيرٌ جرى طرحُه كبديلٍ أكثر منطقية عن التفسير الأول، في شرح دورِ الصيام في مقاومة السموم. لكنَّه للأسف لم يتأكَّد حتَّى الآن.