الحدث- مصدر الخبر
بقلم: د.باسل غطاس
لم يعد ممكنًا تجاوز انجراف بعض المثقفين والأكاديميين العرب في الداخل نحو خطاب جديد غريب علينا كأقلية قومية فلسطينية أصلانية في إسرائيل. خطاب جديد ولكنه يعتبر تراجعًا على الأقل، بالنسبة للعقدين الأخيرين من عمر قاموسنا السياسي.
هذه النخبة التي نتوقّع منها أن تشارك في بلورة الخطاب الوطني والرواية التاريخية بعنفوان أصحاب الأرض الأصليين وبقوة الحق التاريخي، صارت، هي الأخرى، تتلعثم وتتأتئ في مواقفها السياسية، أولًا في قراءة دورنا كنواب في البرلمان الإسرائيليّ، وثانيًا بكلّ ما يتعلّق بمسؤوليتنا نحو القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال وعلاقتنا بأبناء شعبنا وأشكال نضالاتهم المختلفة.
بدأت هذه النخبة تعزف نغمة "ماذا يفعل لنا النواب العرب؟!"، تلك النغمة السياسية التي أطلقتها بعض القيادات السياسية الصهيوينة في أواخر القرن الماضي، في محاولة لدق الأسافين بين جمهور المنتخبين الفلسطينيين، وبين القيادة الفلسطينية، التي تخوض أحزابها الانتخابات البرلمانية، تبنّتها هذه النخب المثقفة، دون أن تأخذ دورها، من مكانها، لصدّ هذه الترهّات، التي لا أساس نظريًا لها ولا عمليًا.
هذه المقولة، التي تعني فيما تعنيه، أنّ هذه النخب ترى في دور البرلماني مساحة لخدمة الجمهور (!)، والتي يعرف القاصي والداني أنّها لا يمكن أن تكون كذلك، ما دام البرلماني خارج دائرة الحكومة والائتلاف. لماذا تتجاهل هذه النخبة أن النواب العرب الفلسطيينين في الكنسيت الإسرائيلي ليسوا ولا يمكن أن يكونوا في الائتلاف الحكومي؟ ولماذا تتجاهل أن وضعيّتهم السياسية أصلًا تجعلهم مختلفين كل الاختلاف حتى عن المعارضة في البرلمان؟ وبناءً عليه، لماذا تتوقّع من نواب في البرلمان أن يقوموا بما على الحكومات أن تقوم به، وأن دور النواب العرب لا يمكن أن يتجاوز، فعليًا، في السياق تحصيل القليل من خلال فضح الامتيازات والعمل على فرض نوع من المساواة في الفرص في بعض المجالات؟ ماذا يريد لنا هؤلاء؟ ألا ننطق بأي حرف سياسي داخل البرلمان، وأن ننصرف إلى تحصيل الفتات الذي بالكاد يمكن تحصيله.
تنسى هذه النخبة أن تمثيلنا في البداية هو تمثيل سياسي وليس تمثيلًا خدماتيًا، رغم أننا، كنواب في المشتركة وبدون منازع، نعمل في الغالبية العظمى من وقتنا على محاولة سن قوانين تخدم أبناء شعبنا، وعلى تحصيل الميزانيات لقرانا ومدننا العربية، وعلى توجهات الجمهور من أبناء شعبنا. وقد سجّلنا، كنواب، إنجازات حقيقية في عدة مجالات.
أن يتساوق خطاب هؤلاء مع خطاب القيادات الإسرائيلية، فهذا مؤشّر على خلل واضح وكبير في البوصلة السياسية واستذوات لمفاهيم تفرضها علاقات القوة القائمة بين الأكثرية المستعمرة والقامعة وبين الأقلية الأصلانية المقموعة، وهذا ما سميناه في قاموسنا السياسي أسرلة. الأصل في عملنا كسياسييّن في موقع عضوية البرلمان، هو قيادة الجماهير والتعبير عنها بالمطالبة بالحقوق ومقاومة التمييز والإقصاء والمصادرة والتهجير وتعرية الديمقراطية الإسرائيلية الكاذبة، وإلى جانب ذلك، محاولة تحصيل كل ما يكمن من براثن هذا النظام العنصري بنيويًا، وبالتأكيد، ليست وظيفتنا التماهي مع الطبيعة اليهودية والصهيونية للدولة (وهناك من يدعو لذلك علنا)، حتى نحصّل ما يحصّله الأيتام على موائد اللئام، والتجربة السياسية التاريخية في السياق البرلماني مع هذا الاحتلال، خير دليل على ما أقول.
القضية الثانية وهي بالغة الأهميّة، هي مسارعة هؤلاء لاستنكار العمليات التي يقوم بها أبناء شعبنا من المناطق المحتلة عام 67. وقد سبق وقلنا في السياق إن الهرولة الزائدة من قبل البعض لإدانة العمليات دون خشية لومة لائم، هي، بحد ذاتها، مؤشر إلى حالة معينة خطيرة يدخلها المجتمع الفلسطيني في الداخل باتجاه أسرلة مبطنة ومركبة أخطر من تلك المفضوحة التي غزتنا في التسعينيات من القرن الماضي.
وأعتقد جازمًا أن هاتين الظاهرتين تشكّلان مؤشرًا واضحًا أن هذه أسرلة مستذوتة كحالة وعي مستندة للمنفعة والحقوق، وتقيم مصالحة من طرف واحد مع مقتضيات المواطنة في دولة اليهود. وأخطر ما في هذه الحالة هو أنها لا تعترف ولا تفقه أنها أسرلة مبطنة، لأنها تقبل بل وتستدعي القطيعة مع السياق التاريخي ومع الحالة الجمعية، ولا تقيم وزنًا لمفردات الحالة الأصلانية، ومعاني النكبة وفقدان الوطن، واستمرار الاحتلال والاستيطان كحالة استعمارية مستمرة.
المسألة ليست سموًا أخلاقيًّا لمن يدين العملية هذه أو تلك ويسميها إرهابًا. إننا نمتلك المواقف والقاعدة الأخلاقية المتماسكة، التي ترفض العنف ضد المدنيين حتى من خلال المقاومة المشروعة لشعب يناضل من أجل الحرية. لهذا السبب بالذات، لسنا بحاجة لتصريحات من منطلقات اعتذارية بسياق إسرائيلي. فإن هذا يحوّل الإدانة إلى مجرد محاولة فاشلة للفوز بإعجاب الآخر، لا أكثر ولا أقل.
هذا هو الحال، أيضًا، مع من سارع ويسارع في هذه الساعات لإلقاء اللوم على النائبة حنين زعبي، بسبب الهجوم المنفلت الذي تعرضت له من النواب العنصريين اليهود، حين واجهت المؤسسة الإسرائيلية باتفاقها مع الأتراك، باعتباره اعترافًا بأنّ الإرهاب هو الهجوم على أسطول الحرية، وأنّ هذا اعتراف مبطّن بقتل النشطاء الأتراك. نعم إنه لمن المخجل أن أرى بعض هؤلاء المثقّفين والأكاديميّين يقطفون رؤوسهم وينزلقوا لتبني وتكرار مقولات اليمين الصهيوني. ينقص بعد أن يحمّلنا هؤلاء المسؤولية واللوم بأننا نجلب على أنفسنا هذه القوانين العنصرية.
لقد قلنا، سابقًا، إن أسوأ العنصريين هو ذاك الذي يحمل ضحيّته المسؤولية عن عنصريته، ونضيف، الآن، أن أسوأ من هذين هو ذاك المقموع من قبل العنصريين ويتقبل تلك الفريّة. نحن نؤمن أن دور دور المثقّف والأكاديمي لا ينحصر في الجامعات أو الحيز العام بالمعنى المهني والعلمي الجاف، بل على النخبة الفلسطينية المثقفّة أن تشكّل هي، أيضًا، سدَّا من سدود الحفاظ على الهوية وممارسة النضال من موقعها إلى جانب العمل الحزبي والنضال الشعبي الوطني.