ليس مبالغةً أن نقول إن مسؤولية المجال الثقافي والفني في فلسطين واقعةٌ، إلى حد كبير، على عاتق المبدعين المستقلين. فما زال القطاع الإبداعي المستقل في فلسطين -منذ توقيع اتفاقية أوسلو- الفاعل الأنشط في إنتاج الفنون ودمج الفنانين الفلسطينيين في المشهد الثقافي الإقليمي والعالمي. كما ساهم هذا القطاع مساهمةً كبيرة في حفظ التراث الثقافي الفلسطيني (المادي منه والفكري). وقد ساهم القطاع المستقل (ممثلًا بالمنظمات الثقافية والفنية غير الحكومية، والفنانين المستقلين، والمبادرات المستقلة كالتعاونيات والفرق الموسيقية والشركات) في تقديم (بشكل متعمد أحياناً وغير متعمد غالباً) صورة بديلة عن الحياة اليومية في فلسطين للعالم الخارجي، مؤنسناً بذلك الفلسطينيين، ومحاولاً -بدرجة أقل- أن يمنح الثقافة قيمة خاصة باعتبارها حاملاً للتنمية عموماً. فوق ذلك، لعبت الثقافة المستقلة في فلسطين دوراً كبيراً في صياغة سياسة ثقافية -ليست رسمية، بل يفرضها الأمر الواقع- في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، عبر اقتراح الأولويات ووسائل الفعل والتأثير والتدخّل. من جهة أخرى، اتَّسم عمل القطاع الثقافي المستقل في فلسطين بالجودة والعمق، إذ أمكن التوصل أخيراً إلى مستوى مقبول من التوازن بين الجودة الفنية والطرح السياسي. كما استطاع القطاع الإبداعي المستقل تقديم أنساق فنية فولكلورية وأخرى معاصرة.
أما اليوم، في عام 2016، وبعد مرور قرابة عقدين على تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ومرور أربع سنوات على انضمام فلسطين إلى اليونيسكو، وتوقيعها على ثماني اتفاقيات هامة من اتفاقيات اليونيسكو، منها اتفاقية مؤتمر عام 2005 التي تنص على حماية وتنويع أشكال التعبير الثقافي، ومع إظهار القطاع الثقافي المستقل المزيدَ من النضج في الشكل والمضمون، يحدق بالمشهد الثقافي الفلسطيني المستقل خطر الإزالة، إذ يواجه العديد من المنظمات الفنية والثقافية غير الحكومية في الضفة الغربية والقدس خطر إيقاف عملها وحلِّها نتيجة صعوبات مالية وتنظيمية. حرية التعبير في فلسطين تتراجع بشدة، ما يؤثر على البيئة القادرة على احتضان خلق أعمال فنية مستقلة. كذلك، يبدو القطاع الثقافي خاضعاً لهيمنة لاعبين جدد، وتبدو التعددية الثقافية في خطر. وبطبيعة الحال، يترك الوضع السياسي في الدول المجاورة، في فترة ما بعد الربيع العربي، أثره على فلسطين عموماً، والقطاع الإبداعي المستقل فيها خصوصاً، مع تغيُّر الأولويات الإقليمية والعالمية. يخضع عمل القطاع الثقافي الفلسطيني المستقل في القدس لتضييق شديد وعدائية مستمرة من الحكومة الإسرائيلية، أما في غزة، فيعاني القطاع المستقل من كل الجوانب، منذ الانقسام الفلسطيني في العام 2006.
ولا يمكن النظر في اقتراح الحلول لتجاوز هذه النكسة، وحماية القطاع الفني والإبداعي الفلسطيني، من دون دراسة بعض العوامل الأساسية التي تشكل السياسة الثقافية الفلسطينية عموماً، وأداء القطاع الثقافي المستقل خصوصاً. كما يجب التفكير في الحلول ضمن سياق الأزمة التي يواجهها المجتمع المدني الفلسطيني عموماً، وسط التدهور المستمر للظروف السياسية (داخلياً بين الفلسطينيين، وبينهم من جهة والاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى).
على صعيد السياسات، أصدرت دولة فلسطين، منذ تأسيسها مؤخراً، ثلاث استراتيجيات ثقافية وطنية تتنوع في محتواها ومناهجها وآثارها. عام 2004، وضع المجلس الأعلى للتعليم والثقافة (التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية)، بالتعاون مع وزارة الثقافة، الخطة الاستراتيجية الوطنية للثقافة الفلسطينية. تضمَّنت الخطة تعريفاً للثقافة الفلسطينية، ووضعت إطاراً للعمل الثقافي في فلسطين. وعام 2010، أكملت وزارة الثقافة الخطة الاستراتيجية للقطاع الثقافي بين عامَي 2011 و2013. وامتازت الاستراتيجية الثقافية بشموليتها ومنهج إعدادها، حيث تناولت كافة القطاعات التي تشكل الثقافة من منظور واسع. ولم تقتصر المشاركة في إعداد هذه الخطة على وزارة الثقافة وحدها، باعتبارها هيئة رسمية، بل تضمنت منظمات وهيئات أخرى تتميز بنشاطها في المجال الثقافي والفني. أخيراً، أشرفت وزارة الثقافة أيضاً على وضع الاستراتيجية الثقافية الوطنية لما بين عامَي 2014 و2016، والعمل قائم حالياً على اقتراح منهجيةٍ لوضع سياسة ثقافية وطنية بين عامَي 2017 و2022. ورغم أن الاستراتيجيات الثلاث المذكورة قد أُعِدّت بمستويات متفاوتة من التشاور مع القطاع المستقل، ورغم أنها تشير في أدبياتها إلى الدور الذي يلعبه هذا القطاع في التنمية الثقافية في البلاد، تبقى آليات تنفيذ هذا الإطار الاستراتيجي غائبة بعد كل هذه السنوات من العمل على مأسسة السياسات الثقافية العامة. وبغياب أدوات التنفيذ عن الاستراتيجية الثقافية الفلسطينية، ثمة انفصال تام بين الأدبيات الرسمية والسياسات الثقافية الناتجة عن الأمر الواقع، والتي تتشكل وتُنفّذ على الأرض. وفي حين تحدد الاستراتيجيات الثقافية الرسمية وزارةَ الثقافة مرجعاً، فإن صناع السياسة الثقافية في فلسطين، واقعياً، هم أصحاب رؤوس الأموال (المنظمات الدولية ومؤسسات التمويل المحلية)، والمبدعون (من القطاع المستقل)، والحوار والتواصل القائم بين الاثنين، والقائم بينهما من جهة، والقطاع الثقافي العام من جهة أخرى، غير كافٍ مطلقاً.
أدى تعطُّل المجلس التشريعي الفلسطيني منذ عام 2006 إلى تأخير التصديق على القوانين والتشريعات المختلفة التي صاغها وضغط لتنفيذها القطاع الثقافي المستقل بهدف تمكينه. وقد منح تعطُّل المجلس التشريعي مكتبي الرئيس ورئيس الوزراء المزيد من الصلاحيات والسلطات. خلال العامين الماضيين، أصدر مكتب رئيس الوزراء قرارات تهدف إلى التحكم في عمل منظمات المجتمع المدني، حيث بات على تمويل الشركات غير الربحية، المحلي منه والدولي، أن يخضع لموافقة مسبقة من المكتب، ووُضِعت منظمات المجتمع المدني تحت المراقبة وخضعت للتحقيقات باستمرار. وقد أثارت هذه الإجراءات، بطبيعة الحال، مخاوف كبيرة لدى منظمات المجتمع المدني.
كذلك، خلّفت ظروف المنطقة العربية آثارها على فلسطين. فبعد أن كان الاهتمام الدولي يركز -فيما سبق- على دعم المجتمع المدني والمبادرات الفنية في فلسطين، أدى تدهور الأوضاع السياسية ما بعد الربيع العربي وفي الدول التي تشهد تحولاً ديمقراطياً إلى تحويل الاهتمام الإقليمي والدولي عن فلسطين. على صعيد التمويل، أصبحت وكالات التمويل الدولية أكثر اهتماماً بدعم البرامج في المنطقة العربية على حساب فلسطين. وبالإضافة إلى ذلك، تطلق المنظمات الدولية والأجنبية الآن برامج وخططاً تدعم الفنانين المعرضين للخطر والمؤسسات المستقلة المهددة في الدول التي تشهد تحولاً ديمقراطياً. وتركز المنظمات الثقافية الإقليمية أيضاً على دعم الفنانين المعرضين للخطر واللاجئين، وتتجه معظم المبادرات الجديدة نحو هذا الهدف. ولا ريب أن هذا التحول في الاهتمام مفهوم ومبرر ومشروع، إلا أن أحد سلبياته هي تحول التركيز من فلسطين إلى أماكن أخرى، لا بل إن اللجوء الفلسطيني كمفهوم يبدو اليوم غائباً ولا أهمية له. تزامن ذلك مع قرار مؤسسة فورد فاونديشن بإنهاء برامجها في فلسطين. وقد ترك هذا التغير المفاجئ في أجندات هيئات التبرع الدولية للتمويل أثراً جماً على المشهد الثقافي المستقل في فلسطين.
أما على صعيد التمويل المحلي، فثمة اتجاهات جديدة أيضاً. ما زال التمويل العام للثقافة في الحدود الدنيا، مع وجود تمويل محدود من مؤسسات الحكم المحلي. ولم يشهد صندوق الثقافة الفلسطينية تطوراً يُذكَر منذ تأسيسه، ولا تتلقى وزارة الثقافة إلا دعماً ضئيلاً من الحكومة. خلال عام 2016، شهدت مخصصات الثقافة من الميزانية الوطنية تخفيضاً جديداً، ما وضع وزير الثقافة الجديد الشاب والمهتمّ حقاً بتطوير الثقافة، الدكتور إيهاب بسيسو، في موقف صعب. من جهة أخرى، يواصل القطاع الخاص
بعض الأنشطة الثقافية، ولكن الهجمات المتكررة على غزة، والظروف السياسية المتدهورة في السنوات الأخيرة، حوّلت الدعم نحو الإغاثة الإنسانية الأساسية.
أكبر تحول شهدته اتجاهات التمويل هو أداء المؤسسات الفلسطينية المحلية التي تدعم القطاع الثقافي المستقل، ونعني مؤسسة التعاونومؤسسة عبد المحسن القطان، وهما المؤسستان الأكثر مساهمةً في صناعة السياسة الثقافية في فلسطين، بحكم الأمر الواقع. بدأت مؤسسة التعاون -التي تعد من ركائز دعم القطاع الثقافي الفلسطيني المستقل- بتغيير طبيعة عملها من مؤسسة دعم إلى مؤسسة تنفيذ مشاريع، حيث افتُتِح أحدث مشاريعها وأكثرها إثارةً للجدل، المتحف الفلسطيني، مؤخراً. بلغت تكلفة المرحلة الأولى من البناء 24 مليون دولار، ولم يُعلن بعد عن برامج المتحف ولا عن مجموعة مقتنياته ومعارضه. ورغم السرور الكبير بوجود مشروع رائع كهذا في فلسطين، عبّر العديد من العاملين في المجال الثقافي عن تشكيكهم في القيمة المرجوة من إنشاء بناء ضخم بميزانية كهذه في وقت يكافح فيه الفنانون والمؤسسات الثقافية لمجرد البقاء. وليس واضحاً بعد كيف يمكن لمؤسسة التعاون أن توازن بين التزامها برامجها الخاصة من جهة، والتزامها دعم المجال الثقافي من جهة أخرى. وليس واضحاً أيضاً كيف سيتعامل المتحف الفلسطيني مع المخاوف بشأنه. تناولت الأصوات القلقة ذاتها عمل مؤسسة عبد المحسن القطان. ولئن كان هناك إجماع على أهمية العمل التراكمي الذي قامت به المؤسسة دعماً للقطاع الثقافي الفلسطيني المستقل (من مؤسسات وأفراد)، فثمة تساؤلات لم تجد بعد إجابةً بشأن توسيع برامجها، حيث تثير آلية التمويل المشترك مع الجهات الخارجية، على أهميتها، بعض القلق في الأوساط الثقافية المستقلة، إذ تستسهل منظمات التمويل الدولية تقديم المخصصات المالية للثقافة والفنون المُقدَّمة من خلال مؤسسة القطان. وليس قرار الجهات التمويلية الخارجية مفاجئاً نتيجة الاستقرار والقوة والمصداقية التي تتمتع بها المؤسسة في المجتمع المحلي ونظيره الدولي. وتُقدَّم برامج وخطط جديدة من خلال هذه الشراكات الناشئة. ولكن، من غير المعلوم كيف سيؤثر هذا التغير في نسق التمويل -من تقديم التمويل مباشرة إلى القطاع الإبداعي المحلي المستقل، إلى تمويله عبر مؤسسة القطان- على بقاء وتطور القطاع الإبداعي الفلسطيني المستقل، الذي كان المستفيد الأساسي من هذا التمويل بشكله المباشر.
إذاً، ما الذي يمكن فعله إزاء هذا الوضع المعقد والشائك؟ ثمة حلول قصيرة الأمد، وأخرى بعيدة الأمد. من الناحية الاستراتيجية، لا بد من الحفاظ على ديمقراطية المجتمع الفلسطيني وتعزيزها، وحماية حقوق الإنسان. ولا بد من إنهاء حالة تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني ليعود إلى العمل، كما لا بد من حل الخلاف السياسي الفلسطيني الداخلي وإنهائه. ويمكن للقطاع الفني الفلسطيني المستقل المشاركة في عملية الإصلاح السياسي، بتوسيع شراكاته مع المنظمات غير الفنية، كجمعيات حقوق الإنسان، والاتحادات والنقابات، والأحزاب السياسية. كما يمكن لهذا القطاع الانضمام إلى ائتلافات متعددة الأوجه والتخصصات ليكون له أثر أعمق من الأثر الذي يحققه لدى العمل معزولاً عن الفعاليات الأخرى في المجتمع.
بدأت المنظمات المستقلة العمل على إنشاء شبكات تهدف إلى مأسسة التعاون والتنسيق فيما بينها، ولتشكل مجموعات ضغط لتحقيق أولويات عملها (وهو جزء مهم من عمل المنظمات الثقافية غير الحكومية، أُهمِل مراراً لتقديم الخدمات الفنية والثقافية التي يحتاج إليها المجتمع). وفي هذا الإطار، شهد عام 2016 إنشاء شبكة منظمات الفنون الأدائية الفلسطينية، وشبكة شفق (شبكة المراكز الفنية في القدس). ورغم أن المبادرتين جاءتا بمبادرة ممول خارجي (سيدا – السويد)، يمكن لهما أن تشكلا أساساً للمزيد من التعاون، وقيادة العمل الفني في فلسطين وفتح سبل الحوار بين كافة الأطراف المعنية بتطوير القطاع الإبداعي المستقل.
كذلك، يجب مراجعة الأولويات الوطنية في القطاع الثقافي وإعادة التفكير فيها بصورة جماعية. وقد آن الأوان لأن تبدأ وزارة الثقافة حواراً حقيقياً يجمع كافة أصحاب المصلحة ليتوصلوا معاً إلى حلول مبتكرة. والفرصة سانحة لذلك الآن، كون الحكومة الفلسطينية تعمل حالياً على استراتيجية الثقافة الوطنية للفترة 2017 – 2022. ولا بد للاستراتيجية الجديدة أن تكون قابلة للتنفيذ، وأن تعالج الصعوبات التي يواجهها القطاع الثقافي الفني، وتقدم حلولاً وخطط عمل وآليات مراقبة وتقييم. ويُنتَظر من مؤسسة التعاون ومؤسسة عبد المحسن القطان أن تتقبّلا علناً دورهما كمساهمتين أساسيتين في صناعة السياسة الثقافية الفلسطينية، وكركيزتين لدعم القطاع الإبداعي الفلسطيني المستقل، وبالتالي، مشاركتهما الفعالة في عملية الحوار، وإسهامهما الكبير لا في صياغة السياسة الثقافية الوطنية المقبلة فحسب، بل في دعمها وتنفيذها أيضاً.
*فاتن فرحات - خبيرة لدى اليونسكو وباحثة دكتوارة في السياسات الثقافية في جامعة هيلدزهايم ألمانيا
المصدر مجلة السياسات الثقافية في المنطقة العربية