مشربيات المزار الحسيني، ووجه إحداهن أطلّ بلثمة سوداء لينثر من حولنا عبقا قديما...
للراحلين عن ذلك المكان، صحوة بنكهة الحنّاء، تنبت الآن بين حجارته العتيقة ليخرج الراوي إلينا فجأة، بدثاره الشتوي، ونظارته السميكة...، شيعتنا بعينين لفهما كحل سخي من خلف مشربيات المزار وحتى طوانا برفقته الزقاق. تأبط حفنة الكراريس ومشى بيننا ككهل الرواية في "زقاق المدق" و"خان الخليلي"، وشارع المعز لدين الله الفاطمي، حكى لنا كيف عاقرَ السّحر في شغف المماليك، بين حارات وبازارات أمسك عن ذكرها الزمن، تعلقنا بمعطفه المسائي وهو يطوف بنا حول ليل القاهرة، حتى أدرك النهر، فراح يصطاد لنا الحكايا، لم يكن سوى الليل ونحن، وثرثرات تقرص خدّ العتمة على صفحة "النيل"...، ومركب عائم، ينزلق، يرشح بأخيلة طازجة لعاشقين طال بهما السّهر، سالَ بينهما الضوء ثم تشظّى بانكسارات عديدة على جسد الماء. هناك...، كان يشير لنا، إلى حيث يختلط اللون ولا ينحل في رقرقة الزبد، ليرتد نحو السهارى كأصداء شحيحة، أفرغها الليل من كتل الضجيج وحوّلها الى ضحكات لا تعبأ بأحد.
ولما انتهينا...، قادنا نحو جدار حجري يسدّ فسحة رحبة، تستريح على صدرها أزقة الحيّ والناس، تريّثَ قبل أن يصافح وجه إحداهن خلف مشربية قديمة، همس لنا وهو يشير إليها: منذ ألف سنة وهي تحرس الدرب! كنّا رأيناها قد أطلّت قبل هذا الوقت، لتوقظنا، لكنها الآن لم ترنا...! وحين توارت، سكن كل شيء، فأطرق بيننا طويلا حتى طوانا كجفن على رمد، أخرج من جيبه لافتة وحيدة، رشق بها الجدار...، فانبثق خلفها فضاءً لمقهى " مقهى نجيب محفوظ"...، إغرورقت عيناه بدمع الراحلين، وقال: سأعجز عن ليلة كهذه... أما أنتم، فادخلوها آمنين.