في ذات السياق التَّاريخي المُتَّصِل بالمجريات التي أسهمت بتشكيل وجه العالم؛ مطلع وسحابة القرن العشرين بكامله؛ فإنَّ الحقيقة الأكيدة هي أنَّ أمريكا لم تدخل الحرب العالميَّة الأولى إلَّا عندما تعرَّضت مصالحها التِّجاريَّة وطرق تجارتها مع بريطانيا لخطر الهجمات العسكرية الألمانيَّة في البحار؛ وكان ذلك في السنة الأخيرة للحرب؛ عندما هددت البحرية الألمانيَّة عدداً من البواخر الأمريكيَّة التي كانت تُسْتَخدَم في نقل البضائع والمعدَّات الى بريطانيا؛ وقد كان سبب دخولها الحرب - وفي جانبه الأهم - هو للدفاعِ عن مصالح رجال الأعمال الأمريكيين؛ وحفاظاً على أولويَّاتهم التجاريَّة مع إنجلترا تحديداً. وليس - لتحرير أوروبا - كما زعمت الإدارة الأمريكيَّة بعد ذلك.
وربما كان هناك سبباً مباشراً آخر لدخول أمريكا الحرب العالميَّة الأولى، وهو ما يتَّصلُ بتعهُّد ألمانيا للمكسيك عام 1917 وعلى لسان الوزير الألماني ( زيمرمان ) بأنْ تُساعد ألمانيا المكسيك عل إستعادة الولايات التي فقدتها الأخيرة لصالح الولايات المتحدة؛ وهي ولايات ( تكساس، وإيريزونا، ونيومكسيكو ). وهو ما استغلَّتْهُ الإدارة الامريكيَّة لإقناع الرأي العام الأمريكي بدخول الحرب بتاريخ 4 إبريل - نيسان – عام 1917م. بذريعة أنَّ ألمانيا تحاول أنْ تتدخَّل في شؤون الولايات المتحدة الأمريكيَّة الدَّاخليَّة؛ الى الدَّرجة التي بدا فيها دخولها للحرب وكأنَّهُ إستجابة لضغوط الرأي العام الأمريكي.
أمَّا ما عدا ذلك من شعارات أرادت تصوير دخول أمريكا للحرب بكونه دفاعاً عن أوروبا – ولتحريرِ أوروبا – فهو محض أسطورة ودعاية كاذبة؛ وذلك ما أثبتته سياسة الولايات المتحدة الإقتصاديَّة تجاه أوروبا على وجه الخصوص منذ عام 1922 فصاعداً. وتجاه إستغلال نتائج الحرب العالمية الأولى، لمدِّ نفوذها في منطقة المحيط الهندي- كمنطقة نفوذ إنجليزي تقليدي – في السَّابق .
لقد كانت سياسة الولايات المتحدة تجاه الحرب العالمية الأولى تبدو وكأنَّها سياسة الحياد الإيجابي؛ فيما كان سلوكها، وفي الحقيقة تجاهها؛ يتّسِمُ بالإنتهازيَّة القائمة على أساسِ إستثمارها في إدارة وإثراء عجلة التصنيع العسكري الأمريكي الَّذي يرفُد القوى الأوروبيَّة المتصارعة بالمعدَّات العسكريَّة من المدفعية والدبَّابات وقطع الغيار وخصوصاً إنجلترا؛ لكن عندما تعرَّضت مصالح الولايات المتحدة التجارية للخطر وجرى محاولة التَّدخُّل في أمريكا اللاتينية بما لا يُلائم سياساتها؛ دَخَلت تلك الحرب تحت عنوان - إنقاذ أوروبا - من خطر سيطرة الشُّوفينيَّة الألمانيَّة والإيطاليَّة على مجمل أوروبا؛ وتحت عنوان نجدة القارَّة الأوروبيَّة من خطر استمرار الحرب لفترة أطول من ذلك.
فقد أثبتت مجريات السياسة الأمريكية في أوروبا لاحقاً؛ أنَّ دخول الولايات المتحدة الى حلبة الصِّراع العنيف في القارَّة الأوروبيَّة؛ متأخِّرة جدَّاً؛ كان الهدف منه هو استثمار المرحلة التي تكون فيها القوى الأوروبيَّة منهكة ومهشَّمة وغير قادرة على حسم نتائج الحرب بما يُديم ويُعزز موقع القوى الأوروبية التقليدية، وبحيث تكون في تلك المرحلة بحاجة ماسَّة الى القوة العسكرية الأمريكية التي تتمتع بالعافية والتفوُّق لتحقيق ذلك؛ وبحاجة ماسَّة للإقتصاد الأمريكي المُتَعَمْلِق والمتنامي؛ والذي لم يتضرر- بل بالعكس استفاد من مجريات الصراع في أوربا- بحيث تقوم أمريكا بإدارَةِ عملية إعادة الإعمار وتضطَّلع بإدارة الإستثمارات في الأرض البكر الخراب داخل القارَّة الأوروبيَّة.
وفيما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى تحت شعار إنقاذ أوروبا وإرساء قواعد السلم العالمي؛ إلَّا أنَّها، في الحقيقة، إستغلَّت نتائجها لصالح هيمنة إقتصادها؛ ولصالح بناء تحالفاتٍ جديدة؛ كانت تقوم على أساس توسيع النفوذ الأمريكي ليشمل ساحة القارَّة الاوروبيّة بعد ما استقر لها أمرالإنفراد بأمريكا الَّلاتينيَّة؛ ولتؤسس ومنذ تلك المرحلة بدايات بناء السِّتار الحديدي في مواجهة الإتحاد السوفييتي؛ فبعد النتائج التي أفضت إليها ثورة أكتوبر عام 1917في روسيا؛ كانت الولايات المتحدة ترى أنَّ الإتحاد السوفييتي وبما يطرحه من مفاهيم إشتراكيَّة؛ وبما قد يمثله من قوَّة صناعيَّة وعسكريَّة مُستقبلاً؛ سوف يُشكِّل هو والاحزاب الشيوعية في شرق وغرب أوروبا؛ وبتَّحالف الأحزاب الشيوعيَّة واليساريَّة؛ والحركات القوميَّة معه في الشرق الأدْنى والأوسط وفي شمال إفريقيا وفي أمريكا الّلاتينيَّة ؛ تهديداً وخطراً محدقاً على فكرة ومخططات إعادة إنتاج وصياغة الإستعمار الكولونيالي على أسسٍ جديدة وبشكلٍ جديد يضمن إبتلاع ثروات العالم؛ ومصادر الطَّاقة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ ورَهْنِ إقتصادات الكوكب لصالح تطبيق وتحقيق مفاهيم الليبرالية الرأسمالية الجامحة نحو السيطرة على مجمل الثروات في مستعمرات القوى الأوروبية القديمة التي أجبرتها نتائج الحرب العالمية الثانية على إخلاءِ كثيرٍ من تلك السَّاحات لصالح النفوذ الأمريكي؛ ولصالح توجيه إقتصادات العالم نحو الإنصهارِ في واقع وحدانية السوق الرأسمالية بقيادة وإدارة الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا السياق نجد أنَّ الولايات المتحدة قد تعاملت وتعاونت مع ألمانيا النَّازية ومع إيطاليا الفاشيَّة كقوىً شرعيَّة - من وجهة النَّظر الأمريكيَّة في حينه - من حقِّها فرض شروطها على خارطة القارَّة الاوروبيَّة - فيما عُرِف حينَذاك بسياسة إسترضاء هتلر؛ واحتواء طموحات موسيليني - وفي هذا السِّياق سارت السياسة الأمريكيَّة حتَّى أواسط ثلاثينيات القرن الماضي؛ وحتَّى اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ فقد كانت سياساتها تُشجِّع ( أدولف هتلر ) على المضي في مد نفوذه السياسي عبر القارَّة الاوروبية بدعوى وقوف ( هتلر ) في وجه انتشار الفكرة الشيوعية وبدعوى قدرته على مواجهة البلاشفة في شرق وغرب أوروبا .
ونقتبِسُ هنا ومن أحد المنشورات الأمريكيَّة ذات الصِّلة؛ التَّالي: " في عام 1922م إمتدَحَ السفير الأمريكي في إيطاليا تقدُّم ( موسيليني ) نحو روما؛ واصفاً ذلك - بالثَّورة الجميلة والشَّابة – وشرحَ لماذا قد يكون الفاشيُّون هم العامل الأقوى في الضَّغط على (البلاشفة) ومواجهتهم؛ ومن ثمَّ تمتعت إيطاليا الفاشيَّة بوضعٍ خاص من جانب الإدارة الأمريكيَّة؛ وكانت أحد الدُّول الأوْلَى بالرِّعاية فيما يخُصُّ تسوية ديون الحرب العالمية الأولى؛ والإستثمارات المتدفقة عبر أوروبا بعد الحرب. وفي عام 1937م تحدَّثَ الرئيس الأمريكي ( ثيودور روزفِلْت ) عن ( موسوليني ) بوصفه " هذا الجنتلمان الإيطالي المهذَّب والَّلطيف " وفي عام 1937م أكَّدت إدارة الدَّولة الأمريكيَّة بأنَّ " الفاشيَّة أصبحت روح إيطاليا " كونها وضعت حدَّاً للنظام الفوضوي، وفرضت نظاماً خاصَّاً لإيطاليا؛ ووضعت حدَّاً للبطالة والإفلاس ". وقد اعتبرت إدارة الدولة الأمريكيَّة في عام 1937م، الفاشيَّة متوافقة مع المصالح الإقتصاديَّة الأمريكيَّة؛ بما يعني – أيضاً – توافقها مع المفهوم الأمريكي للديمقراطيَّة.
ولم يكُنْ الوضع مختلفاً في تقييم ومعاملة هتلر. ففي عام 1933م كتبَ القائم بالأعمال الأمريكي في برلين لواشنطن؛ بأنَّ الأمل في ألمانيا يتوقَّفُ على الجناحِ المعتدل في الحزب الَّذي يقوده هتلر؛ الَّذي يُخاطبُ كل الأشخاص العقلاء والمتحضِّرين. وبما أنَّ محور ألمانيا إيطاليا لم يُهاجِما أمريكا -عقب بيرل هاربر – ولم يتدخَّلا في مجريات المواجهة مع اليابان في المحيط الهندي؛ فقد بقيت هذه النظرة للفاشيَّة وللنازيَّة دون تغيير!!. ".
( الى هنا؛ ما جاء في منشورين لأكسفورد بعنوان - السلام الطويل – و - عنوان الولايات المتحدة وإيطاليا الفاشية - الصَّادران عام 1987م...المصدر/ كتاب لروجيه غارودي؛ بعنوان أمريكا طليعة الإنحطاط ص 59 ) - .
وإذْ قام هتلر ومنذ عام 1939م بمهاجمة النَّمسا؛ وبضم أجزاءٍ من تشيكوسلوفاكيا؛ ما أدَّى الى اندلاع الحرب العالميَّة الثانيَّة – ولنقُل الحرب الأوروبيَّة الثانية، كون حقيقة أنَّ ما يُشار إليهما بالحربين العالميتين لم يكونا في الحقيقة سوى حروباً "أوروبيَّة – أوروبيَّة " كان العالم مسرحاً لهما – فإنَّ الولايات المتَّحدة لم تتحرَّك ضد هتلر إلَّا في حزيران عام 1944م ؛ وذلك بعدما مُنِيت القوَّات الألمانيَّة بأول هزيمة كبرى لها في أيَّار عام 1944م في معارك ( ستالين جراد ) حيث خسر الجيش الألماني حوالي 250 ألف قتيل وحوالي 150ألف أسير؛ وبعدما كانت المقاومة في جميع أنحاءِ أوروبا تستنزف الجيش والإحتلال الألماني بقوَّة كبيرة وبتسارع.
في ذلك الوقت من نهاية الحرب العالمية الثانية - وكما كان سلوك الولايات المتحدة الإنتهازي تجاه الحرب العالمية الأولى – وبعد أنْ اندفعت القوَّات الرُّوسيَّة باتِّجاهِ وسط أوروبا ملحقةً هزائم متلاحقة بقوَّات ألمانيا النَّازيّة؛ فقد سارعت الولايات المتحدة لفتح الجبهة الغربية ضد هتلر؛ وبدأت تُحضِّر لإنزال ( النورماندي ) في فرنسا؛ وبدأتْ بقصف المدن الألمانيَّة بدون رحمة وبشكلٍ إستعراضي وبدون مبرر؛ كما حصلَ في قصفها لمدينةِ ( ديرسدين ) الألمانيَّة؛ حيثُ اودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الألمان؛ فيما كانت القوات الرُّوسية قد تجاوزت تلك المدينة أثناءَ تقدُّمها داخل الاراضي الالمانيَّة؛ ولم تعتبرها هدفاً لعمليَّاتها؛ ولم تقم بقصفها؛ بل واحتجَّت على قصفها من قبل الأمريكيين بدون مبرر عسكري !!.
وبعمليَّة الإنزال في ( النُّورماندي ) على السَّاحل الفرنسي؛ وبِلَحَاقِ القوَّات الأمريكيَّة - مُتأخِّرةً جدَّاً- بالقوَّات الرُّوسيَّة في حصارها ( لبرلين )؛ وبعد أنْ الحقت قوَّات الجيش الرُّوسي الهزيمة بهتلر متكبِّدَةً من جرَّاءِ المعارك مع الجيش الألماني مآت آلاف الضَّحايا؛ إضافةً الى ملايين الضَّحايا من المدنيين الرُّوس. فيما تكبَّدَ الأوروبيُّون ملايين الضَّحايا من الفرنسيين والإنجليز ومن سائر الشعوب الأوروبيَّة؛ بما فيها الألمان أنفسهم – إلتحقت الولايات المتحدة بموكب النَّصر على النَّازية والفاشيَّة بشكلٍ إستعراضي وانتهازي في العام الأخير للحرب الكارثيَّة التي عصفت بأوروبا لمدَّةِ أربع سنواتٍ قبل ذلك؛ وقد بدت خسائرها وتضحياتها ضئيلةً إذا ما قيست بحجم وبهوْلِ تضحيات وخسائر الجيش والمدنيين الرُّوس- خَسِرَت روسيا في هذه الحرب حوالي سبعة عشر مليون ضحيَّة؛ وفرنسا وبريطانيا حوالي مليوني ضحيَّة وألمانيا حواي ثمانية ملايين ضحيَّة؛ فيما خسرت أمريكا قرابة مئتين وثمانين ألف ضحيَّة - وقد أنهت – الولايات المتحدة - تلك الحرب بكارثتين إنسانيَّتين إستعراضيَّتين مهولَتين؛ في مدينتي ( ناكازاكي ) و (هوريشيما ) في اليابان؛ باستهدافهما بالقنابل النوويَّة؛ وذلك برغم إستعداد اليابان لتوقيع صك الإستسلام قبل هذين الهجومين؛ وذلك رغبةً من واشنطن بإحداثِ صدمة رعب للعالم تمَهِّدُ لعصرِ هيمنة عضلات القوَّة العسكريَّة - الإستراتيجيَّة والنَّوويَّة - كمدخلٍ لمختلَفِ أشكال الهيمنة بعد ذلك !!.
بكلِّ الاحوال؛ وإذْ انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945م؛ فقد خرجت الولايات المتحدة الأمريكيَّة منها بأكثر المزايا الإستراتيجيَّة التي يمكنُ انْ تجنيها - إمبراطوريَّة - ما عبر التاريخ؛ فقد خرجت منها بالمشروع الإستثماري الهائل لإعمار أوروبا؛ المُسمَّى ( بمشروع مارشال )؛ وبَنَتْ السِّتار الحديدي حول أوروبا الغربيَّة من جهة الكتلة الشيوعيَّة بقيادة الإتحاد السوفييتي؛ وامتلكت نصف ثروة العالم؛ في حين بلغت خسائرها حدَّاً لا يُذكَر إذا ما قورِنَ بخسائر الآخرين !!.
وفي مرحلةِ ما بعد عام 1945م كان العالم على موعدٍ جديد ومتجدد مع الحروب المفروضة أمريكيَّاً؛ في كوريا عام 1950وفي فيتنام، مطلع الخمسينيَّات وحتَّى نهاية الستينات من القرن الماضي، ومع غيرها الكثير من الحروب الأمريكيَّة الكثيفة والخفيفة؛ المباشرة وغير المباشرة، وبالوكالة، في أمريكا الَّلاتينيَّة وفي غيرها من القارَّات؛ ومع تلك الحروب الأمريكيَّة العابرة للقارَّات الخمس تحت العناوين الزَّائفة في العراق - في الحرب الأولى- وفي أفغانستان؛ وفي عمليَّة احتلال العراق في الحرب الثَّانية. هذا عوِضاً عن الصِّراعات الدَّاخليَّة التي أثارتها وغذَّتها في حروبها السِّرِّيَّة؛ خدمةً لمصالحها الإمبراطوريَّة ولمصالح سلطة الشَّركات التي تُهيمنُ على صناعة القرار داخل مؤسساتها التشريعيَّة والتنفيذيَّة؛ وخدمةً لاغراضِ مجمَّعاتها الصِّناعيَّة العسكريَّة !!.
وقد جرت كل تلك الحروب المفروضة على العالم؛ تحت العناوين التالية التي تنتمي كلٌّ منها لمرحلتها وعصرها؛ حسب مقتضيات المصلحة الإستراتيجيَّة الامريكيَّة؛ وهي: إحتواء المدِّ الشيوعي، ومواجهة إمبراطوريَّة الشَّر تارةً؛ وحماية المجال الحيوي للعالم الحرّ تارة أخرى؛ وحقّ الدِّفاع الشرعي؛ والتَّدَخُّل الإنساني؛ والدِّفاع عن الدِّيمقراطيَّة والحرِّيَّات؛ وصيانة القانون الدَّولي، ومحاربة الإرهاب، وما الى ذلك من عناوين مُخادِعة... وهذا ماسيكون مدخلنا الى الجزء الرَّابع؛ إن شاء الله.