تسرد الدكتورة فاتن مناصرة تفاصيل حادثة اعتداء زوجها الدكتور صابر العالول، مدير الطب الشرعي في فلسطين، عليها في عيادتها قبل أيام في خطوة تنم عن شجاعة ووعي يسجل لها، ومفجرة أوجاع وقهر آلاف النساء اللواتي يتعرضن يومياً للقهر والتعنيف والإساءة ولا يلقين سنداً أو إعانة لإخراجهن من الجحيم الذي يعشن فيه. لقد أثارت هذه القضية مشاعر كثيرة عند كل مهتم بحقوق المرأة والمواطنة ومكانة القانون في الوطن وتحولت بسرعة هائلة إلى قضية رأي عام.
محامي الهيئة المستقلة لحقوق الانسان في بيت لحم حيث تسكن مناصرة، الأستاذ علاء غنايم، أكد على رواية السيدة فاتن بأنها سبق وتعرضت للاعتداء من قبل زوجها وتقدمت بشكوى ضده لوحدة حماية الأسرة، بعد تعرضها للتعنيف والاعتداء وحصولها على تقارير طبية تثبت ذلك. لكن بعد الفحص تبين أن الشكوى لم تحول للنيابة نتيجة عدم استكمال الإجراءات التي كانت تستوجب حضور د. مناصرة إلى رام الله، مكان إقامة المشتكى عليه. ويتضح أن د. العالول لم يكترث لهذه الشكاوى معولا كما يبدو على علاقاته الواسعة والطيبة مع جهات متنفذة كثيرة بحكم عمله وعلى قصور الإجراءات والقوانين فيما يخص الشكوى المقدمة ضده والتي لا تعير بالا للضغوط الفعلية والاقتصادية والمخاطر التي تتعرض لها المرأة المعنفة.
وقد حصلت السيدة مناصرة على تقارير طبية توثق ما تعرضت له من كدمات وتمزق في عضلات الرقبة وحروق ناتجة عن رش رذاذ الفلفل على وجهها وشعرها وعيونها والجزء العلوي من جسمها جراء الاعتداء العنيف والمدبر الذي تعرضت له بداية هذا الأسبوع على يد زوجها. وعلى إثر ذلك، أصدر رئيس نيابة بيت لحم راسم البدوي قرار "إحضار" بحق العالول.
في الأثناء، قيل إن العالول تعرض لحادث دهس من قبل مستوطن نقل على إثرها إلى مستشفى المقاصد ووزعت عائلة العالول تقريراً من المستشفى يقول إنه تحت رعايتهم. ثم قيل إنه نقل إلى مستشفى هداسا للعلاج من إصاباته المزعومة، وعند سؤال وزارة الصحة حول ما اذا تم التحويل بشكل رسمي وأن الدكتور العالول، المطلوب الآن للنيابة، متواجد في القدس وبعيدا عن قبضة العدالة على نفقة المال العام، صرح الناطق باسم وزارة الصحة "لم يتم تحويله من الوزارة ولا نعلم بوجوده في اي مستشفى وهناك لجنة تحقيق وزارية على مستوى عال بخصوص ما حصل".
لكن المسألة لم تقف عند هذا الحد، فقد قدمت عائلة السيد العالول تقاريراً طبية من المشفيين الذين عالجا السيدة مناصرة ينفيان تماماً ما تعرضت له من اعتداء موثق. هذا التضارب الصارخ يضع مصداقية منظومة الصحة في كل الوطن في مهب الريح ويفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات مشروعة حول نزاهة التقارير الطبية التي تصدر، خاصة فيما يخص النساء المعنفات. هذا التضارب، إذا لم يتم معالجته بصرامة، ينسف أي ثقة كان من الممكن أن تحملها امرأة معنفة تجاه الأطباء الذين يفترض أن تكون نزاهتهم والتزامهم بصحة مرضاهم خارج دائرة الشك.
من المستغرب والمستهجن أن تداعيات هذه القصة لم تلقى الاهتمام العلني المطلوب من قبل الجهات الرسمية، ما ينم عن استهتار مدان بالمرأة الفلسطينية وليس فقط بالسيدة المعنية بالقضية وغياب لثقافة المصارحة والشفافية المطلوبة. حتى وزارة العدل، حافظت على صمت مطبق لثلاثة أيام قبل إصدار بيان مقتضب تعلن فيه تشكيل لجنة تحقيق وايقافها العالول عن العمل لحين استكمال التحقيقين كما يقتضي القانون. وتبين أيضا في هذا البيان المتأخر أن الوزارة كانت قد أنهت تكليف العالول بمهام إدارة الطب الشرعي في شهر شباط من العام الحالي لأسباب لم تبينها، ما يثير تساؤلات إضافية حول أدائه والملفات الحساسة التي كان مسؤولا عنها. ولم يشر البيان إلى السؤال الأهم وهو ماذا ستتخذ الوزارة من إجراءات لمراجعة الملفات والقضايا التي كان العالول مسؤولا عنها بعد أن أصبحت نزاهته في دائرة الشك ولماذا تأخرت الوزارة ثلاثة أيام قبل أن تتخذ الاجراء القانوني المطلوب بإيقافه عن العمل؟ ما الذي أخر هذا المتطلب القانوني؟
في ظل هذا الصمت والتلكؤ، كيف لأي امرأة أن تلجئ للقانون والمستشفيات للخلاص من زوج عنيف يمكن أن يقضي على حياتها وأن تتحلى بالجرأة والشجاعة المطلوبة لمواجهة مجتمع يعتبر شكواها "فضيحة" اذا كانت نزاهة من تلجئ لهم في دائرة الشك؟! وما علينا سوى الاستماع للدكتورة مناصرة التي وبالرغم من شجاعتها وقوتها وإصرارها على تحقيق العدالة، فإنها قد وصلت إلى قناعة بأن أمانها يكمن في الخروج من الوطن واللجوء إلى أي دولة تستقبلها.
هذه القضية لا تتعلق فقط بحقوق المرأة وبقصور القانون وأدواته وبمكانة المشتكى عليه الرفيعة بل تمس كل ما يمكن للمواطن أن يرتكز عليه في حياته اليومية وفي شعوره بأن حقوقه مصانة وكرامته محفوظة لدى الجهات الرسمية. لقد كشفت ثنايا القضية هذه أهوالا لا يمكن السكوت عليها أو الاستهانة بها بحيث أصبحت قضية د. فاتن قضية المجتمع كله ولا يجب القبول بحلها بعيداً عن أطر القانون وغيرها من الهيئات المؤتمنة على تنفيذه لأن ذلك من شأنه أن يضرب مصداقية منظومة العدالة في الوطن برمتها. كل المؤسسات الرسمية المعنية مطالبة بالعمل على إنفاذ القانون وإعادة الاعتبار للمؤسسات والهيئات المؤتمنة على حياة الناس وأمنهم الشخصي ومعالجة النظرة الدونية للمرأة المتغلغلة في المجتمع والتي تتعايش مع ضرب الزوج لزوجته والاعتداء عليها لفظياً وجسدياً على أنه شأن خاص. مطلوب من الجميع المكاشفة والمصارحة والإعلان عن سلسلة من الإجراءات والتحقيقات التي تعالج القصور الواضح في القانون وآليات تنفيذه، بالإضافة إلى ضمان النزاهة فيما يخص التقارير الطبية ووجوب اتباع إجراءات حساسة تجاه النساء المعنفات وما يتعرضن له من ضغوط ومخاطر. المطلوب هو التأكيد أن المنصب لا يحمي أحدا من المحاسبة وأن المرأة ليست كيانا قاصرا أو مواطنا من درجة عاشرة حتى يستهان بأمنها وكرامتها وحقوقها.
أخطأ محمود درويش حينما وصف المرأة الفلسطينية في إعلان الاستقلال عام 1988 بأنها "حارسة بقائنا وحياتنا، وحارسة نارنا الدائمة" لأنه في هذا الوصف الجميل عكس رؤيته الراقية لواقع المرأة الفلسطينية ومكانتها التي تستحقها لكنه أغفل الواقع العنيف والمزري الذي تعيشه هذه المرأة. منذ نعومة أظافرنا ونحن نستمع إلى تبجيل مزيف للمرأة الفلسطينية، التي حُصر دورها في النضال الوطني وحماية الهوية الوطنية فيما تم تأجيل قضاياها الحقوقية إلى ما بعد الخلاص من الاحتلال، في محاولة للالتفاف على قضايا جوهرية تمس مكانة المجتمع الذي لن يرتقي إذا ما بقي نصفه يعاني من العنف والتمييز والازدراء المجتمعي. كفى!