الثورة ليست مؤسسة ربحية وفي زحمةِ الموتِ كل الكلام غبار
عمان – الحدث
يعتبر الشاعر الفلسطيني الشاب رامي العاشق – ابن مخيم اليرموك من الأصوات الشعرية الواعدة في الساحة الشعرية الفلسطينية والعربية، وهو رغم صغر سنه - مواليد 1989-، استطاع أن يصل بكلماته إلى الملايين من خلال صوت الفنانة السورية أصالة نصري التي غنت من كلماته أغنية «آه لو هالكرسي بيحكي»، وموّالي «خيّا وأخي»، و «درعا». وبمناسبة إصدار مجموعته الشعرية الأولى الموسومة بـ “سيرا على الأحلام” عن منشورات “دار الأيام” بالأردن، التقيناه فكان لنا معه الحوار التالي.
كيف تقدم مجموعتك الشعرية «سيرًا على الأحلام» للقارئ الفلسطيني والعربي؟
“سيرًا على الأحلام”، هي خلاصة ثلاث سنوات من زمن الثورة السورية، عشت فيها صرخة المظاهرة الأولى، وقساوة الاعتقال الأول، والهروب، رثاء الأصدقاء، ملامح أمهات الشهداء، اللجوء، وتحوُّل اللاجئ إلى سلعة يتاجر الجميع بها، ومخيم اليرموك الذي خذله العالم كله، ونصره صبره.
سيرًا على الأحلام، متّهم بأنه ديوان رثائيٌّ بامتياز! لذلك ربّما كانت هناك قصيدة عنوانها “شاعر الموتى”! ربّما لأن الموت هو الأكثر قدرة على الاستمرار! وربّما لكثرة القصائد الرثائية فيه، لكن هذا لا ينفي عنه أنه ديوان يجسّد يوميّات الثورة والأمل، وإلا لما كان عنوانه “سيرًا على الأحلام”.
حدثنا عن الصعوبات التي واجهتك في رحلة صدور مجموعتك الأولى؟
منذ عام ونصف تقريبًا وأنا أبحث عن تمويل لطباعة المجموعة، ولكني لم أجد، ولا أريد السقوط في مستنقع المال السياسي، إلى أن عرض علي أحد الناشرين منذ ستة أشهر طباعة الديوان على نفقة الدار، وهو كان مديرًا اقليميًا للدار في الأردن، أعطيته المخطوط وخاطبني المدير العام للدار بأن مؤسستهم استوفت مخصص الشعر لهذا العام، لكن بعد أيام وقعت الدار عقد نشر مع شاعرة معروفة، حتى أن المدير الإقليمي شعر بالحرج أمامي فأخذ على عاتقه طباعة الديوان لدى دار نشر أخرى، لكن مدير الدار الأولى قال له: أوقف كتاب رامي العاشق، فرفض، فأقاله من عمله! وفي آخر الأمر جمعنا التكاليف من بعضنا وتم النشر لدى دار “الأيام” التي لم تأخذ كامل المبلغ حتى اللحظة.
تقول: “لولا الثورة السورية لكنت ربما كما الكثير من الشباب السوري جيلًا ضائعًا وتائهًا ومهمشًا”. فهل فعلًا كانت الثورة السورية حاضنة للشباب السوري والفلسطيني السوري؟ وما الذي قدمته لك أنت تحديدًا وبالتالي ماذا قدم لها رامي العاشق؟
كنا سنكون كذلك، أن تأكل وتشرب وتنام، لا يعني أنّك حي، بل يعني أنّك لا تختلف شيئًا عن الحيوانات، حتى لو كنتَ مديرًا لشركة ما، لا يختلف الأمر، كان ينقصنا الكثير من الكرامة والحرية، والقليل من الخبز.
نعم الثورة احتضنت الشباب السوري والفلسطيني السوري فهم قوامها الأساسي، وبعض الفلسطينيين شاركوا في الثورة منذ اليوم الأول عندما ساهموا في فكّ الحصار عن درعا، وهرّبوا الطعام، والمخيمات الفلسطينية في سوريا تشهد أطلالها، مخيم درعا، الرمل، خان الشيح، اليرموك، سبينة، النيرب، العائدين، كل المخيمات تشهد أنها كانت مدنًا عامرةً بالأبطال، وأضحت خرابًا ودمارًا.
الثورةُ كانتْ بمثابة صرخة الميّت بالنسبة لي، ماذا يعني أن تعيش في وطن، تُجرّ فيه إلى سبعة فروع أمنٍ لمجرّد أن جارك كتب فيك تقريرًا؟! وماذا سيعني لك هذا الوطن، إن لم تلمس مواطنتك فيه؟ لو لم تقدّم الثورة للجميع، لما رأيت الناس يقدمون أرواحهم في سبيلها، الثورة ليست مؤسسة ربحية، بل هي قرارك الداخلي بالتحرر من كفنِك، وهذه الثورة بالذات –الثورة السورية - هي آخِر المعجزاتِ، وستنتصر حتمًا، لأنّ إرادةِ الشعبِ أقوى من إرادةِ العائلة .. ببساطة.
أنا لم أقدّم شيئًا للثورة، هناك أبطال حقيقيون لازالوا داخل سوريا، هم من يقدّمون، أنا الآن لا أملك سوى قلمي، ولا أعرف إن كانَ صوتُه أعلى من صوت الرصاص، لكني آمل ذلك!
في قصائدك تناولت آلام مخيم اليرموك وحصاره وشهداءه .. ماذا تقول لأهلك الذين ما زالوا يعانون ويلات الحصار والتجويع والقتل والتشريد؟
ربما هم لا يقرؤون هذا الكلام الآن في اليرموك، أيُّ مواساةٍ وأيُّ دمعةٍ هي ترفٌ، لا وقتَ للحزنِ أيضًا، من سينجو من هذه المأساة، سيفكّر أولًا في سبيلٍ لمقاومةِ الفاجعة، والثأر، أما من حوّلوا الوجع لسلعةٍ فسيمتهنون الوجعَ ويحترفون اللطم. في زحمةِ الموتِ، كل الكلام غبار!
في قصيدة “سيرًا على الأحلام” والتي حملت عنوان المجموعة، تتحدّث عن اللجوء والعودة والخيمة واللاجئ.. إلى أي مدى تستحضر في أشعارك قصائد شعراء فلسطين من جيل الرواد وشعراء الثورة الفلسطينية المعاصرة؟
لطالما حاولت في المجموعة الأولى أن أكون بلا أبٍ شعري، لكن الثورة الفلسطينية كانت مدرسة من كل الجوانب، وخاصة الأدبية والثقافية منها، قد يتشابه حال اللاجئ، وقد تتشابه الحروب، لكن الشعر لا يسمح له بالتشابه، فتلك محرقة، فما فائدة الشعر إن كان كلامًا مكررًا مقولبًا؟
تحضر في أشعارك “الثورة السورية” ويحتل مخيم اليرموك حيزًا كبيرًا في المجموعة بينما تغيب فلسطين وطنًا وقضية وثورة في مجموعتك الأولى، فكيف يمكن قراءة هذا الغياب؟
الغيابُ لا يُقرأ، لذا لم تغِب فلسطين (وأنا فلسطينُ التي كانت تحضّر ما تبقّى من قصاصات الهويّة والوطن) فكلّ القصائد تأخذك إلى هناك، فلا سبيل لتحرير الأرضِ إن لم يتحرر الإنسانَ، وإلا لأصبحتُ من دعاة اللّطم والنواح، والادعاء بالممانعة والمقاومة، ولأمسكتُ بجرح فلسطين ونشرته على حبل الغسيل عسى أن أصبحَ بطلًا مثيرًا للشفقة، ما هكذا تذكر فلسطين.
أشعارك تتراوح بين الفصحى والعامية، أين تجد نفسك أكثر؟
الديوان كلّه بالفصحى، وهذا كان لأقول للقارئ، إنّني أملك نصًّا جيدًا بالفصحى أيضًا، أمّا بالنسبة للشقّ الثاني، فأنا أؤمن أن لكلّ من الطريقتين دوره، معظم ما كتبتُ بالعامية، كان قصائد غنائية، غناها مجموعة من الفنانين الذين أحترمهم، أما الفصحى، فذاك شغف ورثته من عائلتي المتعلّقة باللغة العربية بشكل كبير، أن أقارن بينهما، كأنك تسألني من أحب أكثر، سوريا أم فلسطين، وكلاهما وطني.
حدثنا عن لقائك بالفنانة أصالة نصري وعن تعاونكما المشترك.
التقيت بأصالة بعد عام ونصف من إطلاق أول عمل مشترك بيننا هو «آه لو هالكرسي بيحكي»، الأغنية التي كانت مجرد (ستاتوس) على (الفيسبوك)، ووصلتها فطلبتها مني، ثمّ قبل لقائنا بيوم، طلبت موالا عن فلسطين وسوريا فكتبت لها بذات اليوم أربعة نصوص غنّتها كلّها في اليوم التالي في حفلتها في فلسطين. وكان لقائي بها وهي في طريقها من مطار عمّان إلى الحدود الأردنية الفلسطينية لمدة ربع ساعة فقط، أصالة كانت أكثر حظًا مني، ودخلت فلسطين، الجميل في الأمر.. أنها لم تنسَ ذلك، على مسرح بيت لحم، وقبل أن تغني موال «خيّا وأخي»، تحدّثتْ مطولًا عني أنا الشاعر الفلسطيني السوري، كما هي الفنانة السورية الفلسطينية، وقتها.. أصبحتْ فلسطين أقرب من أي وقت مضى، عرفتْ كلماتي قبل أن تعرفني.
هل من مشاريع غنائية في الطريق مع فنانين سوريين أو عرب؟
أحضر الآن لعدة مشاريع غنائية مع فنانين سوريين وعرب، لكن الموضوع سيأخذ وقتًا لنخرج بأعمال جديدة ونوعيّة، هناك أسماء كبيرة سأسعى لتغني من كلماتي، وهناك أسماء كبيرة طلبت مني كلامًا ونحن الآن نتناقش في النصوص. ومن المشاريع الجاهزة اليوم، أذكر أغنية “يا سامعين الصوت” التي ستغنيها الفنانة الفلسطينية نورا أبو ماضي، وهي أغنية تتحدث عن حصار مخيم اليرموك وشهداء الجوع، كذلك هناك أغنية “خيمة تلج” التي سيغنيها الفنان السوري وائل نور، وهي أغنية تتحدث عن خيمة اللجوء.
شعر
سيرًا على الأحلام
رامي العاشق
عادَ الوطن
فاحمل هُويَّتَكَ التي أجّرتَها
واشطب يديهم من عليكَ ومن عليها
واختصر أسماءَكَ الثّكلى
تمادَ إذا رغِبتَ
وإن رغبتَ امسح بَشاشةَ غربتِك
ودِّع مخيّمكَ المغبَّر
واعتبِرهُ قصيدةً،
غزليّةً، مرثيّةً، عبثيّةً، قسريّةً، طوعيّةً، منسيّةً
لكن .. تذكّر
أنّ كلّ قصيدةٍ كانت وطن
واحمِل لجوءَكَ أينما كانَ الذهابُ
وعُد على كفّيكَ
أو شفتيكَ
أو سيرًا على أحلامِ عودتِكَ، انكسِر !!
لكن تشبّث بالإياب
هاتِ التشرّدَ والعذاب
هاتِ احتراقَ الطفل في الصحراءِ
هاتِ رمالَها
هاتِ الرياحَ ولُفّها بالخيمةِ
استفتِ العدم،
واخرج كما لفّت رياحُكَ ثوبَ خيمتِكَ الأخيرِ
وكفّنتكَ بذلّها
لُفَّ الرياح
واخلع ثياب الموتِ عنكَ
وقل لها:
«لُمّي بقاياكِ المُصابةِ بارتجاجٍ في ثباتِ السّاكِنين
فالذلّ أصبحَ يا رياحَ الموتِ
وهمً كالخلودِ لدى الطغاة»
قد كُنتَ في مُدُنِ الشّوارعِ سِلعةً
ويُباعُ خبزكَ في مزاد
ويباعُ أمنك في مزاد
ويباعُ دمعُكَ في إذاعاتِ المراقِصِ والبلاد
صمتٌ كلامُكَ
حصّنِ الأحلامَ من حربِ الجراد
سرقوا نصيبكَ من دمائكَ
تاجروا بهوائكَ المخلوطِ موتاً
عرضوا ملامح وجهكَ المتعوسِ في كلّ الصحف
أخذوا جراحكَ صوّروها للكَرَم
ظنّوا بأن الصورةَ المسحوبُ لونُ بياضِها
تُبدي المشاعرَ والألم
وفرحتَ بالصورِ الكثيرةِ بالعلَم
فامسح دموعكَ
لا تدعها ملكَهم
باعوا الدموعَ
تكاثرت ثرواتهم من دمعكَ المجبولِ في عطَشِ التذكرِ، فاحترِس!
قبلَ النزوحِ كنوزهم كانت عدم
واحمل عذابك ناسيًا ما قد مضى
وادخل بلادك فاتحًا
واجعل جراحَكَ قِبلةً
وافتح دموعكَ واقتنِص أشلاء حُلمِكَ من دخانِ الطينِ واستفتِ العدم
قبّل ترابَ حدود ملعبِكَ القديم
كانت حياتك قبل هذا اليوم
أشبهَ بالحلُم
فافزع إلى وطنٍ كريمٍ أخضرٍ
واهجر صحارى الذلّ
قد عادَ الوطن
عادَ الوطن.