الحدث- روان سمارة
"الكبار يموتون والصغار ينسون" قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بن غوريون، قاصدا بها تجريد الكل الفلسطيني من مخزون ذاكرته الجمعية، بكل ما تحتويه من ثقافة، وفكر، وتراث. كيف لا وسرقة هوية المكان لا تقل أهمية عن احتلال الأرض، وأسر ما عليها ومن عليها من شجر وإنسان وحجر.
بدأت السرقة الإسرائيلية للتراث الفلسطيني بالأزياء، فنسب الثوب الفلسطيني المطرز للتراث اليهودي، فارتدته عارضات الأزياء الإسرائيليات، ومضيفات الطيران، ثم عمل مصممون إسرائيليون على تصميم كوفية تشابه الكوفية الفلسطينية، بلون العلم الإسرائيلي ونجمة داوود. ولم تقتصر السرقات على الأزياء وحسب، بل انتقلت للفلكلور الفلسطيني من رقص ودبكة وشبابة، حتى المطبخ الفلسطيني لم يسلم من السرقات فقد أصبحت كثير من مأكولاته تراثا إسرائيليا، فالفلافل، والحمص، وحتى المفتول صار بين ليلة وضحاها جزءا من مطبخ إسرائيلي لا يملك هوية واحدة.
كل هذا دفع بالمصور الصحفي أسامة السلوادي لإعلان حرب صورية يوثق من خلالها التراث الفلسطيني، لتكون النتيجة حتى الآن ثلاثة كتب هي، ملكلت الحرير، وبوح الحجارة، وأرض الورد، يقول: "التزوير والسرقة التي يتعرض لها التراث الفلسطيني،وتحديدا في الفترة الراهنة، جاء وفق عملية ممنهجة يقوم عليها الإسرائيليون منذ زمن؛ لنسب هوية الأرض المحتلة للاحتلال، وهو مايجب علينا كفلسطينيين بشكل عام، وصحفيين بشكل خاص التنبه له جيدا، فالتراث لايقل أهمية عن الأرض والمقدسات."
بدأ أسامة السلوادي العمل كمصور صحفي منذ ما يقارب خمسة وعشرين عاما، عمل خلالها مع عدد من الوكالات المحلية والعالمية، من بينها وكالة الصحافة الفرنسية، ووكالة رويترز للأنباء، حيث غطى عددا من الأحداث السياسية المحلية والدولية، إلى أن جاء يوم السابع من شهر تشرين الأول للعام 2006، فأصيب أسامة برصاصة حولته من مراسل إخباري، لمصور وثائقي على كرسي متحرك، يقول: "أصدرتُ عشرة كتب وثائقية مصورة، كان من بينها ثلاثة كتب ضمن مشروع توثيق البصري للتراث الفلسطيني، وهي ملكات الحرير، والذي يختص بالأزياء الفلسطينية ويصنفها مناطقيا، بوح الحجارة وهو يعرض في مجموعة من الصور فن العمارة الفلسطينية، وإصداري الأخير كان كتاب أرض الورد، وهو يوثق الزهور والنباتات التي تنتشر في البراري الفلسطينية. أما مشاريعي الأخرى فكان منها كتاب مصور عن حياة البادية، وكتاب الختيار، والقدس، وكتاب خاص بالأعراس الفلسطينية وقد احتوى على عدد من الصور النادرة."
لا يقتصر مشروع "التوثيق البصري للتراث الفلسطيني" على المطبوعات الثلاث، فأسامة يرى فيه مشروعا وطنيا كبيرا، ما زال أمامه الكثير من الأجزاء، ولعل أهمها تلك الجزئية المتعلقة بالمطبخ الفلسطيني، والتي تعرضت ولا تزال للعديد من عمليات السرقة، يقول: "المطبخ الفلسطيني وأكلاته، هو أهم أجزاء مشروعي، فالحديث عن الطعام لا يقتصر على توثيق الأكلات صوريا وحسب، بل هو يتحدث عن الطعام بدءا من الزراعة، وانتهاء بالمائدة وطقوسها، إضافة لارتباط هذه الأكلات بالأعياد والمواسم."
تكمن أهمية المشروع من وجهة نظر أسامة السلوادي في كونه جزءا من معركتنا مع الاحتلال، فهو لا يقتصر على تقديم الصور وحسب، بل يقدم للمتلقي معلومات خاصة بهذه الصور، تبدأ بمقدمة يطرح من خلالها المصور موضوع الكتاب، إضافة لبعض الشروحات في بداية كل باب، أو عند كل صورة، أما مصادر هذه المعلومات فيقول أسامة: "ألجأ في كل مشروع لخبراء أكاديميين لإعطاء المعلومة الصحيحة للمتلقي، ففي كتاب ملكلت الحرير تعاونت مع البروفيسور شريف كناعنة، وهو متخصص في الفلكلور والتراث، وتحديدا في مجال الأزياء، فقام مشكورا بكتابة التقديم، إضافة لمجموعة من المعلومات المتعلقة بجغرافية الأزياء وتاريخها، وفي كتاب بوح الحجارة لجأت للمهندس المعماري نصير عرفة، وهو متخصص في فن العمارة الإسلامية، المشكلة الحقيقية واجهتها في كتابي الأخير أرض الورد، فقد كان تقديم المعلومة متعبا لعدم توفر مصادر للمعلومات من خبراء، ما أجبرني على العمل على كل زهرة بشكل منفرد، وذلك عن طريق استخدام الإنترنت وعدد من المراجع، حيث قمت بالبحث عن الزهور في دول حوض البحر الأبيض المتوسط، والدول المجاورة، وذلك بسبب تشابه البيئة الجغرافية من تضاريس ومناخ."
يحتاج مشروع "التوثيق البصري للتراث الفلسطيني" للعديد من الإمكانيات المادية والطاقات البشرية ليخرج بمنتج يتناسب وحجم النتائج المنتظرة، إلا أن أسامة السلوادي يقوم على المشروع بنفسه، فهو بالرغم من إعاقته الحركية فهو يقوم بالتقاط الصور بنفسه، وهو أيضا من يقوم بتصنيف الصور، ويتابع عملية الطباعة والنشر، بل ويقوم بطباعة الكتب ونشرها على نفقته الخاصة، يقول: "رسميا لا توجد جهة تدعم نشر الكتب، لذلك ألجأ في كثير من الأحيان للقطاع الخاص، الذي يساهم بشكل محدود في مصاريف الطباعة، لكن الحصة الأكبر عادة ما تكون مساهمة شخصية مني، حيث أنتظر ريع الكتب المباعة لتسديد نفقات الطباعة، وهذا بالطبع يأخذ وقتا طويلا، ما يعني أن كل كتاب يدخلني في أزمة مالية، في كتاب أرض الورد كان الامر مختلفا فقد طبع بالشراكة مع اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والفنون، وهذا هو التعاون الأول وأتمنى أن لا يكون الأخير."
يرفض أسامة السلوادي اللجوء لمؤسسات المجتمع المدني، أو الممول الأجنبي؛ فهو يخشى أن يتحول المشروع لمشروع مشروط، أو أن يقوده الممولون لمكان آخر، فالمشروع كما يراه أسامة هو مشروع وطني يجب أن يبقى بعيدا عن أجندات الممولين حتى لو كان هذا التمويل على مستوى المعدات التي يمكن أن توفر على أسامة كثيرا من الوقت والمجهود، يقول: "أعمل على التقاط الصور بنفسي، وبمعداتي الشخصية التي تقل جودة عن المعدات التي يستخدمها بعض الهواة، وهذا يعتبر تقصيرا من الجهات الرسمية وغير الرسمية، إذا ما قارنا تجاربنا المحلية بالتجارب الأخرى، حيث تقوم العديد من المؤسسات الرسمية والشركات الخاصة في دول أخرى بتبني الفنانين وتدعمهم بالمعدات والمصاريف، وهذا ما يعرف بالمسؤولية المجتمعية، كل هذا يجعل الفنانين قادرين على الإبداع دون الحاجة للاستجابة لشروط الممولين وأجنداتهم."
وزارة الثقافة الجهة الرسمية المسؤولة عن الفنانين والمثقفين الفلسطينيين، والتي وقفت مكتوفة اليدين أمام مشروع "التوثيق البصري للتراث الفلسطيني"، يقول أسامة السلوادي: "حاولت جاهدا التواصل مع عدد من الوزراء السابقين، وقدمت لهم نسخا من الإصدارات، ولمعرفتي بالميزانية المحدودة لوزارة الثقافة، كان كل الذي انتظرته النقد، وللأسف حتى النقد لم أحصل عليه."
يطمح أسامة السلوادي لإكمال ما تبقى من أجزاء المجموعة، وعن مشروعه القادم يقول: "بعد 7 سنوات تصوير أنهيت جزءا آخر من مشروعي، وهو تصوير الحلي والمجوهرات، والذي يصدر تحت عنوان "زينة الكنعانيات" وهو توثيق للمجوهرات الفلسطينية والحلي."
مشروع "التوثيق البصري للتراث الفلسطيني" هو حالة فنية نضالية خاصة تقوم على كاهل مصور واحد على كرسي متحرك، لا يوثق من خلالها الصورة وحسب، بل يوثق تاريخا فلسطينيا كاملا يتعرض للسرقة والتزوير، الأمر الذي يجب أن يلتفت له المستويان الرسمي والشعبي...