رغم ملايين الصفحات التي كتبت حول ما حدث في تركيا، واستنتاج تفاعلاته المستقبلية، ورغم نصيحة أصدقائي في "الحدث" بالكتابة حول موضوع آخر، إلا أنني وجدت نفسي مشدوداً للهم التركي، محاولاً قدر الإمكان أن أخلّص قلمي وتحليلي من محظور الأبيض والأسود أو الـ "مع والضد".
وأبدأ بتوصيف ما حدث حتى اللحظة، إنهما محاولاتا انقلاب متلازمتان، الأولى قام بها بعض العسكر ودخل تاريخ الانقلابات التركية من باب الفشل الذريع.
والثانية رد أردوغان وأنصاره على المحاولة العسكرية وما جسده هذا الرد من مبالغة ملحوظة تحمل عناويين مثيرة للجدل، مثل تعقيم البلاد من الفيروسات، وتطهير الجيش من الخونة ومخاطبة العالم بلغة إما معي كما أنا وإلا..!
ما فعله بعض العسكريين كان كريهاً ومداناً من حيث المبدأ والوسيلة والهدف، ففي هذا الزمن تجسد الانقلابات العسكرية مهما كانت شعاراتها عهوداً منقرضة من الاستبداد ومصادرة أبسط حقوق الإنسان، لهذا تسابق العالم كله على إدانة الانقلاب، كما تسابقت القوى السياسية التركية المعارضة على إدانته والتحذير من تكراره، فمن يدخل انتخابات برلمانية وفاز أو أخفق فلا يحق له سياسياً وأخلاقيا أن يوافق على انقلاب عسكري هو النقيض البديهي للديموقراطية والبرلمان.
وأخشى ما أخشاه وأنا ممن يعتبرون تركيا رغم التحفظات على العديد من مواقفها صديقاً أو حتى شقيقاً، اأن يتمادى أردوغان وأنصاره في رد الفعل وأن يفقدوا القدرة على فهم الإجماع الداخلي والخارجي ضد الانقلاب كما يجب أن يُفهم، وأن يعتبروا هذه الإدانة الشاملة للانقلاب العسكري كغطاء نموذجي لانقلاب مدني تحت ساتر ديموقراطي.
إن المغالاة واجتثاث من يشتبه بهم من مؤسسات الدولة التركية، وأبرزها الآن الجيش والقضاء، لا بد وأن يؤدي على المدى القريب والمتوسط إلى خلق حالة عميقة التأثير على المجتمع التركي الذي فيه ما فيه من عوامل الصراع العرقي والسياسي والاجتماعي، بما في ذلك احتمالات استغلال الإرهاب لهذا النوع من الاضطراب الداخلي.
التصفيات التي تمت في سلك القضاء، وبهذه الكثافة مع التصفيات المماثلة في القوات المسلحة، اتخذت سمة تصفية الخصوم المحتملين، فأي انقلاب شارك فيه كل الذين اعتقلوا ودعمته الولايات المتحدة زعيمة الحلف الأطلسي، وفق رواية أردوغان، يمكن أن ينفذ بهذا القدر من السذاجة والخفة.
إن الاعتقالات التي تمت حتى الآن سواء كانت على حق أم على باطل لن تكون مجرد شوكة في الخاصرة تم اقتلاعها والسلام.
إن من واجب كل من يعتبر تركيا شقيقة أو صديقة أن يقدم النصح لأردوغان وحزبه، بأن بحر الجماهير يوفر أماناً لمن يعرف السباحة فيه إلا أنه يخبئ غدراً قاتلاً لمن ينام مطمئناً، لأن التيارات والعواصف حين تنطلق لسبب ما، فإن السابح النائم أو المطمئن يكون أول الضحايا.