في ظل ما يحيط بنا من أوضاع، لا نستطيع أن ننكر بأننا جزء لا يتجزأ من هذا العالم الذي يشهد عودة للأصولية والتشدد، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الديني أو كلها مجتمعة، متمثلا في النعرات القبلية، وما ينتج عنها من صراعات دموية تودي بحياة الكثير من الأبرياء، أوالصراعات الطائفية والدينية والتي بدورها تعد أخطر الأمور، وأكثرها تدميرا للنسيج المجتمعي فكرا وممارسة، حيث أصبح المجتمع مجتمعا خاليا من المودة والرحمة، تحكمه أفكار غريبة عن المجتمع الذي اعتدنا العيش فيه طوال السنوات الماضية، والذي قام دائما على احترام التعددية الفكرية والدينية بما في ذلك قبول الآخر، وقبول العديد من الممارسات الحياتية التي لا تُقبل اليوم، على الرغم من أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين، بغض النظر عن الأيديولوجية التي يتبناها الفريق أو الجماعة؛ لأن الهدف الأساسي هو ما تجمع عليه فئات المجتمع قاطبة متمثلا في التحرر، ودحر الاحتلال، وإقامة دولة مدنية تقوم على المواطنة والحقوق والواجبات.
بعد هذا التوصيف البسيط هناك سؤال مهم يراودني ما هو الدور الذي قام به العلمانيون من أجل الحد من هذا الطوفان المدمر؟ للأسف أرى أن نسبة المؤيدين لبناء مجتمع مدني يقوم على المواطنة تنحسر شيئا فشيئا. والسؤال الذي يطرح نفسه هل الأسباب الكامنة وراء ذلك ذاتية أم موضوعية؟
لا يستطيع أحد أن يغمض عينيه ويقول بأننا لا نتأثر بما يجري من أحداث في الدول المحيطة، وخاصة في ظل المتغيرات السياسية، والتي أفرزت عقلية لا نستطيع وصفها إلا بالجاهلية؛ لأن الممارسات اليومية التي نشاهدها ونحياها لا تنطبق إلا على مجتمع جاهلي ليس له علاقة بالقيم الإنسانية المتمدنة.
لكن هل ما نعيشه من أحداث وممارسات قادرة على الحد من نضالنا من أجل مجتمع مدني يتسع لكافة الأطياف؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاختلاف وليس الخلاف هو جوهر التقدم نحو الأفضل، فمن غير المعقول أن نبقى في مجتمع ذي اتجاه واحد يفرض توجهاته ومعتقداته على من يقتنع بها أم لا.
من هنا لا بد لكل إنسان مؤمن بمدنية المجتمع القائم على المساواة بين أفراده بغض النظر عن الدين أو اللون أوالعرق أو الجنس أن يدافع بكل ما أوتي من قوة فكرية قائمة على الحجة والبرهان؛ من أجل تغيير النمط القائم على إقصاء الآخر.
والأهم من هذا كله ينبغي على العلمانيين أن يخرجوا من قمقمهم الذي حشروا أنفسهم فيه، وخاصة أنهم أصبحوا يتنازلون يوما بعد يوم عن معتقداتهم وقناعاتهم، ونمط حياتهم؛ ظنا منهم أن الطرف الآخر سيزداد احتراما لهم، لكن للأسف هذا يضيع علينا الكثير، لأن احترام الآخر وقبوله لا يعني الخجل والتنازل بأي شكل من الأشكال عن أهدافنا ومشروعنا، ومن يتنازل مرة لا يحصي التنازلات.
بناء على ذلك، فالمطلوب عدم الوقوف مكتوفي الأيدي ضد ما نراه من محاولات الطمس للهوية المدنية التي نأمل، بل العمل على نشر أفكارنا والتمسك بها دون خجل أو مواربة أو مجاملة، فمن غير المقبول أن نقوم ببعض الممارسات التي لا نقتنع بها؛ من أجل إرضاء أي طرف كان، ونحن ليسنا ملزمين بالتبعية لأحد.
هذا يتطلب أولا: عدم الحياء من ممارسة العادات والتقاليد والمبادئ التي نؤمن بها، وليس هذا فحسب، بل يجب أن نجاهر بها طالما لم تنل من أحد بالأذى، إضافة إلى دعوة أبنائنا وتوجيههم منذ نعومة أظفارهم إلى أن الخيار الأمثل للعيش المشترك هو العيش في مجتمع مدني يقوم على المواطنة والتعددية والأنسنة، لا على احتكار الفكر والمعرفة.
ثانيا: أعتقد أن على جميع العلمانيين الفلسطينيين أن ينضوا تحت تجمع مدني واحد، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية فيما بينهم، لأنه من غير المعقول أن يظل الإنسان الفلسطيني العلماني المدني تتقاذفه الأمواج هنا وهناك، أو بين فكي كماشة.
إن ما نريد لا يتأتي بالصمت أو الخجل أو التنازل، بل بالإصرار والثبات والقناعة والتنشئة، وعدم مجاملة الآخرين فيما لا تقتنع، منطلقا من أن الاختلاف سنة الحياة. فليقبلك الآخرون كما أنت لا كما يريدون، مما يجعل منك رقما صعبا لا يسهل تجاوزه.