بقلم: جعفرصدقة*
مرة اخرى، يتم اعتقال صحافي لتعطى الفرصة من جديد لحملة واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي توصم السلطة بالتضييق على الحريات، وتوصم اجهزة الامن بالتسلط، خصوصا ان الاعتقال تم من قبل جهاز الامن الوقائي وليس الشرطة، وهي الجهة المخولة بتنفيذ اوامر النيابة العامة والقضاء في القضايا المدنية، في احدث تجليات الجدل بين حق الصحافي بالحصول على المعلومة وحرية التعبير، وحق السلطة/المؤسسة/المواطن في الدفاع عن نفسه امام اية منشورات غير دقيقة او تنطوي على شبهة تشهير.
في مقدمته، اخذ ابن خلدون على المؤرخين نزوعهم الى الرواية الاغرب في كتابة الاحداث التاريخية (اخذ الامور على وجه الاستغراب)، دون اخضاعها للتدقيق او تكلف عناء التفكير بمدى منطقيتها، كأن يقال ان معركة بين جيشين تعداد كل منهما خمسين الفا، في مكان لا يتسع لعشر هذا العدد من الجنود ساكنين، فما بالك بهم وهم متحاربون ويصولون ويجولون على خيولهم؟
وكذا عدد غير قليل من الصحافيين، وخصوصا عند تعاملهم مع الارقام . اذ لا يكفي ان يحصل الصحافي على رقم من مصدر رسمي، وخصوصا اذا تعلق هذا الرقم بالعمل العام او المال العام، وانما عليه اخضاعه لمعايير المنطق، ومقارنته زمانيا ومكانيا وجغرافيا، وفي كل الاحوال، استخدامه بالطريقة الامثل، بما يعكس صورة الواقع وحقيقة الموقف، وبرأيي فإن ما حصل مع الزميل الصحافي محمد عبد الله، بنشره بيانات حول موازنة وكالة الابناء الفلسطينية "وفا"، استنادا الى بيانات وزارة المالية، لا يخرج عن هذا السياق، اذ وقع في مثلبة "اخذ الامور بغرائبها".
للوهلة الاولى، يلحظ المراجع لبيانات وزارة المالية وقانون الموازنة العامة للعام 2016 ان الارقام التي نشرها الزميل عبد الله على حسابه في "فيسبوك"، صحيحة، لكن المرء لا يحتاج الى كثير تمعن اوتحليل او مقارنة ليكتشف ان هناك خطأ ما في هذه الارقام المنشورة على موقع الوزارة الالكتروني ضمن تقرير العمليات المالية لشهر حزيران وكذلك الفترة من كانون الثاني – حزيران 2016، وهنا كان عليه، وهو صحافي متخصص بالشؤون الاقتصادية مشهود له بالكفاءة، البحث في مدى صحة هذه الارقام قبل التعامل معها ونشرها كما هي، بالرجوع الى المصدر.
وحتى الارقام التي يتم التأكد من صحتها، لا يكفي نشرها مجردة، فهي بحاجة الى شرح وتحليل ومقارنات لتبيان مدلولاتها ومعانيها، وهذا شرط لتحقيق الفائدة المرجوة من نشرها للجمهور، وهذه ابرز الخصائص التي يجب ان يتمتع بها الصحافي المختص بالشأن الاقتصادي والمالي دون غيره من الصحافيين العاملين في الحقول الاخرى.
في المحصلة، تبين ان هناك خطأ في تقرير وزارة المالية تتحمل الوزارة نفسها مسؤوليته، اذ خلى تقريرها من هيئة الاذاعة والتلفزيون كمركز مسؤولية، وحملت نفقاتها الى وكالة وفا، وبذلك ارتفعت نفقات الوكالة الىاكثر من 60 مليون شيكل في الاشهر الستة الاولى من العام 2016، الى ان صححت الوزارة هذا الخطأ ليتبين ان هذا الرقم يشمل نفقات هيئة الاذاعة والتلفزيون (53.025 مليون شيكل)، فيما لا تتجاوز نفقات "وفا" 7.861 مليون شيكل.
ومع الاحتفاظ بحق الجهة/الجهات المتضررة رفع شكوى ضد الزميل عبد الله امام القضاء، فإن ما نشره، حتى لو كان خطأ، لا يبرر اعتقاله بهذه الطريقة، كما لا يبرر التحقيق معه محتجزا، وبالتأكيد لا يبرر هذه الحملة ضده، وعبره ضد الجسم الصحافي ككل، وما جره ذلك من حملة تشويه ضد وكالة "وفا" نفسها والعاملين فيها، وبدلا من دفعه وعائلته الى الاعتذار، كان اولى لو تم التعامل معه قضائيا حتى النهاية، وفقا للأصول وبما يضمن حقه في اجراءات عادلة، حتى وان كانت بداية هذه الاجراءات خاطئة، واكثر ما يحز في النفس، في هذه القضية، ان المدعي/المتضرر مؤسسة اعلامية، والمدعى عليه/المفترض انه المتسبب بالضرر صحافي، فتحقق فينا القول "القاتل والمقتول في النار".
بموجب القانون، فان صلاحية النائب العام في الاعتقال، وبلغة اهل القانون انفسهم، هي صلاحية جوازية وليست وجوبية، وعادة يلجأ النائب العام الى اصدار امر اعتقال اثناء التحقيق في حال كان لوجود الشخص حرا خطورة على الامن العام، او لخطورة على حياته، وكلا الحالتين لا تنطبقان على الزميل عبد الله، ولا على غيره في قضايا الرأي.
نعم، هناك الكثير من الاخطاء يقع فيها الصحافيون والكتاب، اغلبها يتعلق بنشر معلومات غير دقيقة او في غير سياقها، ومع ذلك، فقد آن الاوان لاتباع طريقة جديدة في التعامل مع هكذا قضايا، سواء من السلطة، بعدم تصوير الامر وكان خسفا اصاب السماوات والارض، او من قبل الجمهور، او بعضه على الاقل، باستغلال هكذا احداث لتجديد الهجوم على كل ما هو سلطة، واولى الخطوات في هذا الطريق الكف عن احتجاز الصحافيين على خلفية مهنية،والإفراج عن المعتقلين منهم وأي معتقلين آخرين على خلفية الرأي، واستكمال اية اجراءات قضائية بحقهم وهم طلقاء، ومحاسبتهم على قدر اخطائهم ان ثبتت، امام القضاء حصرا، لا ان يُحمَّلوا اخطاءهم واخطاء الآخرين.
_
محرر اقتصادي