أبيع نفسي
«أنا شاب من فلسطين، أعلن للمعنيين عن بيع إحدى كليتيي..وفصيلة الدم +o، والصحة جيدة”. هذا جزء مما جاء في رسالة وصلتنا على صحيفة الحدث، لشاب من إحدى محافظات الضفة الغربية، تعمدت نشرها لا لمساعدته، وإنما لطرح سؤال أظنه هام وخطير في آن، ما الذي يدفع شبابنا للإقدام على هكذا عروض؟ والأمر يأتي بعد إعلان شاب آخر من محافظات غزة كان قد عرض عينه للبيع قبل مدة قريبة.
إن تكرار الأمر يعني أن المسؤولين في بلادنا إما أنهم أخفقوا ومازالوا في رؤية هذه الشريحة من الشعب، ما يعني أننا في حضرة نخبة تعيش في أبراجها العاجية بعيدة كل البعد عن نبض الناس، وإما أنهم فشلوا في إيجاد الحلول المناسبة للخروج من مثل هذه الحالات الطارئة التي لا نتمنى أن تصبح ظاهرة.
الشاب المرسل، أسير سابق خرج للحرية قبل سنوات، كما تفيد معلومات صفحته الشخصية على “الفيسبوك” حيث يضع مكان صورته الشخصية، صورة لأحد القادة العرب بزيه العسكري، ما يعني أنه صاحب شخصية مفعمة بالحيوية والصلابة، تشبه ذلك الزي الذي ارتاده القائد، أو لربما يبحث عن ملامح هذه الشخصية في تلك الصورة، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال من نوع آخر، شخصية مناضلة تحدّت المحتل وقضبانه، ما هي ظروفه التي عاشها ما بعد التحرر، كيف كانت، وما وصلت إليه، كي يصل به الحال إلى عرض أعضائه للبيع؟. سؤال برسم كل المؤسسات العاملة في شأن الأسرى تحديداً.
نعم أدرك كما العديد، كم الهموم والإحباطات التي ما عادت فردية بل باتت هموما جماعية، وتحيط وتؤثر في المجتمع برمته، وخاصة فئة الشباب، ولكني لا أستطيع استيعاب أن يُقدم المرء على بيع أعضائه، ونقف في خانة المتفرجين!. فالأمر برغم تكراره لم يعد ظاهرة بعد، ولكننا إن لم نبحث في الأسباب والدوافع، قد يصبح هكذا في وقت وجيز، ما يعني إنهيار كافة القيم الأخلاقية والإنسانية على مذبح الحاجة، لينشد كل منا القصيدة الهزلية “أبيع نفسي”.
على قيد الأمل
في خضم التحضير لهذا العدد، وفيما قرر نيتنياهو وقف تعامل الوزارات الإسرائيلية مع نظيرتها الفلسطينية، وصلتني مقالة صديقي الشاعر والروائي الفلسطيني اللاجئ أنور الخطيب، ابن قرية «شعب» المغتصبة، البالغ من العمر ستين عاما، قضاها كاملة بعيدا عن وطنه منذ صرخته الأولى حتى صرخته الأخيرة هذه.
أنور كتب مقالته لـ «رام الله» كرمز لهذا الوطن الذي دعاه ليحتضنه بين جنباته لأول مرة في حياته ضمن فعاليات معرض فلسطين الدولي للكتاب. كتبها وهو يعيش حالة انتظار مميتة، لورقة لا تعني أي شيء، وكل شيء في آن، ورقة يتحكم فيها ذلك المحتل الغاصب لكل مقدارتنا بما فيها الفرح، واللقاء، وربما الحب. ورقة «التصريح» التي قد تساوي أهميتها في هذا اللحظة، أهمية شهادة الميلاد وربما أهم لإنسان ولد وترعرع وعاش وشاب وعيون قلبه لم تلمح وطنه يوماً.
كتب أنور ما يُحدث غصة في القلب والفهم والاستيعاب معاً، وما يمكن تسميته بالمواساة لروحه التي تأبى إلا أن تتشبث بالأمل، كتب بألم محزن ومميت عن ما يمكن أن نسميه الفراغ بلغة الصوفية، ذلك العنصر الإلهي الذي يصعب فهمه أو السيطرة عليه، وإن كان لزاماً علينا أن نكون واعين به.
ولكنه فراغ من نوع مختلف، له وجه ولا يوجد له ظهر، فراغ برسم هذا الكابوس المسمى «الاحتلال» ذلك الذي يحيل بين الأرض وابنائها، بين أنور وقريته «شعب» الصغيرة بجغرافيتها، الكبيرة بحجم انتمائه إليها.
قرأت مقاله بوجع احال نفسي لبعض أسئلة لم أجد اجابات شافية عليها، ماذا يريد هذا المحتل من هذا «الخطيب»؟ أتراه يخاف أنفاسه؟ أم يخاف خطى أقدامه في وطنه؟ أيريده أن يدجن قلمه أم قلبه؟ أم أنه يعتقد أن سدوده واسواره قد تمنع الحاضر رغم الغياب من المثول جسدا حيا على أرضه ووسط محبيه؟! والأهم من ذلك كله، ما جدوى أن نقيم مفاوضات لا تفضي لسيادة قرار أدخل مواطن من عدمه؟.
لا أجد ما يمكن قوله في هذا المقام سوى اتركوا أيوب ليعود، افتحوا الأبواب والنوافذ لهذا الأنور، فهو هنا شئتم أم أبيتم في طور الصيرورة وإن لم يتحقق الحلم، هو هنا كما غيره على قيد الحياة التي يمكن أن نرصدها ما بين مشهد البيع ومشهد الإصرار على الأمل.