الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فلكلور المبالغة/ بقلم نور عودة

وعلامةُ رفعِهِ الفكرةْ

2016-08-02 11:11:26 AM
فلكلور المبالغة/ بقلم نور عودة
نور عودة

 

المبالغة في أي شيء تفقده معناه وتشوَه أي حدثٍ أو فكرة. لكننا في فلسطين نستسلم أو نلجأ للمبالغة، وبوتيرة متزايدة، في حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، وفي الإعلام والانقسام والولاء الحزبي وكل مناحي الحياة. ومع أن الزائد أخٌ للناقص كما يقول المثل الشعبي، فقد أضحت المبالغة جزءاً مقيتاً من فلكلور فلسطين الاجتماعي وطرفاً في كثير من الظواهر السلبية في مجتمعنا وعلى رأسها فقدان الأمل وتعميم السلبية.

في السياسة، يبالغ الحزبيون في انتمائهم فيهيئ لمن يسمع خطاباتهم، ويقرأ منشوراتهم أن الفصيل أكبر من فلسطين ولولاه لما كان هناك قضية وطنية ولا حتى هوية. ونقرأ أيضا كيف أن الثوابت الوطنية حكرٌ على هذا الفصيل والفضيلة حكر على ذاك والنضال منبعه الوحيد هو هذا الفصيل أو غيره، حتى وإن كانت آخر إنجازات ذاك الفصيل قد سُجلت قبل عقدين أو يزيد...  وهذه المبالغة تنسحب على أجواء الانتخابات البلدية القادمة فيدعي فصيلٌ أن التصويت لغيره كفرٌ وضياع، بينما يقول آخر أن التصويت له حماية للمشروع الوطني دون أن نسمع من أي فصيل عن برنامجه الانتخابي المرتبط بخدمات البلدية.
 

وفي الصحافة نبالغ، فإما أن تكون وسيلة الإعلام مصفقهً مهللةً لطرفٍ ما وشاتمةً لآخر وشامتةً به، أو أن تكون من جماعة خالف تعرف فتهاجهم حيث يوجد مبرر وحيث يغيب، أو تهلل وتحتفي حيث لا يتطلب الأمر ذلك. ويختلط الشخصي مع العام والحزبي مع المهني منتجاً بيئة مسمومة ينقض فيها الصحافي على زميله، ويستسهل فيها الصحافي تخوين زميله دونما اكتراث للمصداقية والمهنية. مثال صارخ على هذه البيئة حدث قبل بضعة أيام عندما نشر صحافيَ بيانات لوزارة المالية عن موازنة وكالة وفا على صفحته الشخصية على موقع الفيسبوك كما وردت من وزارة المالية فما كان من الوكالة الرسمية إلا أن حركت دعوى ضد الصحافي نتج عنها اعتقاله في ذات الليلة من منزله في ساعة متأخرة في أسرع تنفيذ لمذكرة اعتقال شهدها الوطن! ولم تكتف الوكالة بهذا بل نشرت بياناً تتهم الصحافي بالتشهير المقصود بالوكالة رغم أن الوكالة أقرت بأن الأرقام المنشورة من الوزارة غير دقيقة واتضح لاحقا أنها تشمل موازنة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون دون توضيح ذلك! ولم ينتهي الموضوع عند هذا الحد فقد أصدر المكتب الحركي للصحافيين بياناً لاذعاً وهجومياً بحق زميل، واتهم البيان ضمنا الصحافي المعني وغيره بتبني أجندات خارجية والتساوق مع الاحتلال وغيرها من الاتهامات غير المبررة والعدائية التي أُثقلت بمبالغات هيأت للقارئ والمتابع أنه أمام مؤامرة كبرى دون أن يدري أن العاصفة هذه سببتها أرقام غير واضحة نشرتها الجهة الوحيدة المخولة في الوطن بنشر بيانات عن موازنات الهيئات الرسمية!  
 

نبالغ في حياتنا الشخصية فنجامل حد الرياء، ونعادي حد الغلو، وعند السؤال تجد المواقف في كثير من الأحيان مرتكزة على قواعد مهزوزة من الإنطباعات وأنصاف الحقائق لأننا وببساطة نستسهل الاتكال على ما يقال ولا نكلف أنفسنا عناء السؤال
 

قبل بضعة أيام، هاجم ابن لواء متقاعد منتجعاً سياحياً في أريحا، وتسبب بحسب التقارير بالأذى لأحد عشر شخصاً بينهم أطفال. الحدث كبير وينم عن عدوانية واستباحة من قبل الفتى للناس وحقوقها ومكانتها. لكن ردود الفعل جاءت كاسحة خارقة بحيث استنتج البعض أن كل أبناء الألوية "زعران" ومستفيدون وفاسدون ويستقوون على الناس بنفوذ أهلهم. لكن هذا الاستنتاج الذي يخلط السلبية بالعدائية وغياب المنطق لا يرتكز على الحقيقة لأنه وببساطة لو كان كل ابن مسؤول يستقوي بأبيه أو أمه ويعتدي على الناس لكانت البلاد في حال غير الحال الذي نحن فيه ولما كان ممكناً مساءلة الشرطة وغيرها عما حدث. جدير بالذكر أن أب الفتى المذكور لم يدافع عن ابنه وطلب أن يأخذ القانون مجراه، بدءاً بتوقيف الفتى وانتهاءً بتحويله للمحكمة. لكن أحداً لم يُعر هذه الحقيقة بالاً لأن ردة الفعل الأسهل تمثلت بالانقضاض على الرجل وكل زملائه من الضباط المتقاعدين وغير المتقاعدين باعتبارهم أصلاً لظاهرة غير موجودة في الواقع


المبالغة في الكلام أسلوب من يفتقر للفكرة والنهج العلمي في حدودها الشخصية، تنتج من نصطلح عليهم "الدجالين" شخصياتٌ فاقدةٌ للمصداقية ومزعجةٌ أحيانا لكثرة "خرطها" كما نقول بالعامية. لكن المبالغة في مجتمعنا أصبحت ظاهرةً تساهم في تشكيل وعي مشوه عن السياسة والمجتمع وكل مناحي الحياة. المبالغة في حياتنا هي مكابح مهترئة لسيارة تتدهور بنا وبسرعة إلى حيث لا سلامة ولا نجاة إنها آفة وجب محاصرتها وإلا حاصرتنا.