الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

" خواءُ السِّياسات العربيَّة، ومكائدُ القوى الدَّوليَّة "/بقلم: رائد دحبور

2016-08-02 12:27:09 PM

 

لا بأس من التَّذكير، بطبيعة الوظائف الَّتي تؤدِّيها السِّياسات الخارجيَّة للدُّول بالإجمال، وأهمُّ تلك الوظائف هي تعزيز ودعم وجودها على المسرح الدَّولي أو الإقليمي، ورعاية وصيانة مصالِحها الوطنيَّة أو القوميَّة، ومصالح شعوبها ورعاياها، ويتجاوز الأمر ذلك لدى القوى العظمى إلى مستوى منافسة القوى الدَّوليَّة الموازية لها، وإلى صيانة وتعزيز السَّيطرة على مناطق نفوذها التَّقليديَّة والعمل على توسيع مصادر قوِّتها وتنمية اقتصاداتها وصناعاتِها ورفاه مواطِنيها على حساب المصادر والأسواق الاستهلاكيَّة الخارجيَّة.

 

 تُصنَّفُ الأنشِطة الدُّبلوماسيَّة للدُّول كإحدى أهم آليات سياستها الخارجيَّة، وتأتي إمَّا لتبرير تلك السِّياسات وتفسيرها، أو لِدعْمِ أهداف تلك السِّياسات وغاياتِها، ويبقى أمر ُفاعليَّة المجهود الدُّبلوماسي رهناً بمفاعيل عوامل الاستقرار الدَّاخلي للدُّول وبمدى استقلال قرارها، ومدى تطوُّر أنظمة الحكم فيها، ومقدار فاعليَّة أنظمة ومنظومات الإدارة العامَّة لسياساتِها الدَّاخليَّة والخارجيَّة، ويعود ذلك أيضاً إلى عوامل ومفاعيل القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة والماليَّة والجيوساسيَّة المتوفِّرة، وإلى مفاعيل النُّفوذ المعياري المالي والثَّقافي والحضاري أيضاً – رابطة الكومنوِلث والفراكنكفونيَّة، وتأثير وارتدادات مفاهيم العولَمة وتجلِّياتِها، تلك المفاهيم المُستَخْدَمة والمُسَخَّرة من قبَلِ مركز الثِّقل الحواضري والسِّياسي الأمريكي تحديداً والغربي عموماً مؤخَّراً، مثالاً آخر.

 

 تأتي السِّياسات والبرامج الحكوميَّة الدَّاخليَّة وكذلك السِّياسة الخارجيَّة ضمن دائرة تبادليَّة منسَجِمَةً مُتكامِلَةً مُعزِّزة وداعمة للسِّياسات والبرامج الحكوميَّة الوطنيَّة ضمن المفهوم الشَّامل لمصالح الدَّولة المركزيَّة، لِيُشَكِّلَ ذلك منظومةً إداريَّة عامَّة مُوجَّهة مُمْنْهَجة مُمَرْكَزة تعبِّرُ عن مصالح الأمَّة بالدَّرجَة الأساسيَّة، وليس للتعبير عن مصالح أنظمة الحكم والحكومات ومجموعات المصالح وفقَ أضيق نطاق.

 

من هنا يمكننا ملاحظة معضلة السِّياسات العربيَّة على المستوى الخارجي على وجه الخصوص فضلاً عن مُعضلات السِّياسة الدَّاخليَّة المُزْمْنة، وتلك السِّياسات الخارجيَّة أساساً تأتي كانعكاسٍ ورجْعِ صَدَىً لخلل السِّياسات والبُنى الدَّاخليَّة، وما يمثِّلْه ذلك من استنزافٍ لمصادر قوِّة الدَّولة والمجتمع، وفق أنماطٍ إداريَّة وبيروقراطيَّة قاصرة وسيئة الأداء، وما يترتَّب على ذلك من ضربٍ لمفهوم الإنتماءِ وتكريس العلاقة غير الصِّحيَّة بين الدَّولة ومواطنيها، مِمَا يفرِضُ واقع الوَهن والهشاشة في بنيةِ وجسم الدَّولة والمجتمع في نهاية الأمر.

 

للأسف، فمن المُلاحظ أنَّ السِّياسات الخارجيَّة العربيَّة وكذلك الأنشطة الدُّبلوماسيَّة المرتبطة بها كانت تقوم على أساس، وتنطلِقُ من، قاعدة أولويَّة واحدة؛ فرضتها ضرورات السِّياسات القُطْرِيَّة والفئويَّة الضَّيِّقة بما فيها أولويَّة الحفاظ على بقاءِ واستقرار أنظمة الحكم وخصوصيَّاتها الضَّيقة، ليسَ إلَّا، مِمَّا عمَّق من واقع التَّبعيَّة للقوى الدَّوليَّة والإقليميَّة على الدَّوام، ومِمَّا أفقدَ دول التَّجزئة والتَّبعيَّة أيَّ قدرَةٍ حقيقيَّة على التأثيرِ في مسار السِّياسات الدَّوليَّة الخاصَّة بإقليم الشَّرق الأوسط.

بالتَّأكيد، فإنَّ مكائدَ السِّياسات الدَّوليَّة في الوطن العربي، وفي الأقاليم المُمْتَدَّة من أمريكا اللّاَتينيَّة وحتَّى أعماق وأطراف آسيا، هي واقعٌ مُعاشٌ تؤكِّدُ عليه الوقائعُ ومُجرياتُ الأحداث والأمثلة التَّاريخيَّة والواقعيَّة، قبل أنْ تفضحه أو تُشيرُ إليه الوثائق الَّتي نراها تظهرُ أو يتم الإفراج عن محتوياتِها، من لدُنْ مراكز صنع القرارات الدَّوليَّة ذاتها، أو من لدُنْ أولئك الَّذين أسهموا في صناعَتِها وحَبْكِها بين فينَةٍ وأخرى بحيث ضَمَّنوها في مُذَكَّراتِهم ومؤلَّفاتِهم، أو ربَّما تأتي كَفَلَتاتِ لِسانٍ أو تسريباتٍ مقصودة في ثنايا التَّصريحات واللِّقاءَات الصَّحفيَّة والإعلاميَّة، والأمثلة على ذلك كثيرة، لم يكن أوَّلها ولن يكون آخرها، ما كتبه " جون بيركنز " في كتابه الشَّهير " ضمير قاتل اقتصادي " ولا ما كشفت عنه تباعاً " وثائق وكيليكس " ولا ما أدلى به طوني بلير حول الحرب على العراق مؤخَّراً. ويبقى معيار مقارنة الوثائق بالوقائع التَّاريخيَّة، وبالواقع ومُجرياتِه خير شاهدٍ على صحَّتِها من عدم صحَّتِها.. أليس كذلك ؟!.

 

يميلُ فريقٌ من النُّخب والإنْتِلِجِنْسيا العربيَّة الآنْ –  وعلى سبيل المثال – إلى رفض التَّعاطي إلى ما يُشير إلى فرَضِيَّةِ المؤامرة، وربَّما على قاعَدَةِ سيادة ثقافَة الإنكار، إنكار الوقائع وما تُشير إليه الوثائق - وكردَّةِ فعلٍ على رفض منهج تفسير الإخفاق والعجز بالأسباب والعوامل الخارجيَّة وهو منهجٌ في التَّفكير كان سائداً، وفق وجهة نظرهم، إبَّان مرحلة المدّ القومي العربي لتبرير وجود وسلوك الدَّولة القوميَّة – ويميلون إلى عدم إعطاءِ تلك الفرضيَّة حصَّتِها الوازنة الواقعيَّة فيما يتَّصِلُ بتحديد سياق السِّياسات وما ينتج عنها من مجريات ووقائع؛ إلى رفضِ القبول بنظريَّة المؤامرة؛ ساخِرين من كلِّ مَنْ يُشيرُ إلى تلك النَّظريَّة كعامِلٍ وكمؤثِّرٍ من عوامل ومؤثِّرات صناعة الأحداث وتوجيهها نحو سَيْرورَتِها وغاياتِها واجدين في ذلك فرصةً للتظاهُرِ بممارسة ثقافة التَّعالي النَّخبويَّة.

وفي المقابل وعلى قاعِدَةِ إراحة النَّفس من مجهودِ البحثِ والتَّحليل، وعلى قاعدة مفعول الثَّقافات التَّطهُّريَّة، والبعد عن منهج الجرأة في نقد الذَّات الثَّقافيَّة أو الوطنيَّة والقوميَّة، نجِدُ فريقاً آخر يُحيلُ كلَّ ذلك إلى التفسيرات الَّتي تُقدِّمها فرضيَّة المؤامرة، دون إمعانٍ بمستوى تأثير عوامل القصور الذَّاتي والعجز، وعوامل عدم توفُّر وضوح الرُّؤى والخطط والبرامج في التَّعامل مع الأحداث وتوجيهها أو كبحِ مسارِها الكارثيّ، كما نرى الآن في غيرِ مكانٍ من منطقتنا العربيَّة !!.

 

لقد كانَ فيما مضى ومنذ عقودٍ من الزَّمن - وبعد أنْ وضعتْ الحربُ العالميَّةُ الثَّانيةُ أوزارها؛ أنْ اتَّفقَتْ القوى الدَّوليَّة على إدارة وتوجيه صراعاتِها العنيفة، وخوض حروبها خارج أوروبا.

لقد رأيْنا " تزاحُمٌ بالمَنَاكِبْ " بين القوى الدَّوليَّة على إفريقيا وكنوزها المَنْجَميَّة ومستقبلها ومستقبل دولها، وتراشُقٌ بالصَّواريخ والنَّار بالوكالة في كوريا وفيتنام وأفغانستان والبلقان وفي بعضِ مناطق وأقطار أمريكا اللَّاتينيَّة، وحروباً باردة استخباراتيَّة واقتصاديَّة وماليَّة وثقافيَّة وأخلاقيَّة، وحروباً بالوكالة أو مباشرة في الشَّرق الأوسط وفي الخليج العربي، وما نراهُ اليوم من تراشُقٍ بالنَّارِ والبارود، وبشتَّى وسائل الحروب السَّاخنة الحارقة، وبمختَلَفِ أدواتِها المذهبيَّة والطَّائفيَّة الإثنيَّة والعصبَوِيَّة، لقد كان كلُّ ذلك مظهراً من مظاهر مكائد القوى الدَّوليَّة، وتجلِّياً من تجلِّيات القابليَّة الثَّقافيَّة والحضاريَّة للشعوب والمجتمعات المحلِيَّة، وعَرَضَاً من أعراضِ أمراض الثَّقافات والبُنى النَّخبويَّة، وخواءِ السِّياسات والسِّياسات العربيَّة تحديداً، فيما يَخُصُّ ما جرى ويجري من دماء، ومن إهدار لمستقبل شعوب ومجتمعات المنطقة، ووضعها في مجاهيلِ أرْوِقَةِ وشِعَابِ سياسات القوى الدَّوليَّة !!.

ولذا فقد قدَّمنا في متنِ عنوان المقال، خواءُ السِّياسات العربيَّة على مكائد القوى الدَّوليَّة، كسَبَبٍ ذاتيٍّ مُسْتمِرٍ يستجلِبُ ذات النتائج والمُجْرَيَاتِ الموضوعيَّة المُرتبطة به.