إن النقاش الدائر حول المرسوم الرئاسي المتعلق بتخصيص مقاعد للمسيحين في بعض الدوائر الانتخابية يستدعي الحوار الجدي والمسؤول من كافة فعاليات المجتمع الفلسطيني بالرغم من أن ما أعلنهُ الرئيس أبو مازن هو تأكيد على مرسوم سابق صدر عام 2004م، و قبله حول الكوتا المسيحية للانتخابات النيابية عام 1996م، ولا يوجد ما هو جديد في هذا الخصوص. فما الذي استجد في مجتمعنا لإثارة هكذا موضوع و في هذا الوقت بالذات؟
أعتقد أن هناك تفسيرات وخلفيات فكرية مختلفة عند السادة ممن انتقدوا أو أيدوا هكذا مرسوم، فهناك من يرى بأن ذلك عبارة عن تمييز إيجابي بحق فئات معينة، وهو لا يخل بالمساواة. و هناك من يرى أنها ضرورية للحفاظ على حقوق الأقلية المسيحية خوفاً من المستقبل، وهناك من يرى أن هذا تمييز وطريقة لضمان فوز قوى معينة، ومنع وصول قوى المعارضة لرئاسة البلديات التي تشملها الكوتة.
إن هذا النقاش يستدعي بداية إجراء تعريف واضح عن طبيعة المجتمع الفلسطيني الذي نريد. فمثلاً هل نعتبر المسيحين أقلية دينية، أم قومية، أم هي جزء أساسي مُكون لهذا المجتمع، متساوية في الحقوق والواجبات، وفي هذا السياق أعتقد أن الخطوة الجريئة التي اتبعتها السلطة الوطنية في حذف الديانة من الهوية الشخصية كانت خطوة إلى الأمام في اتجاه مجتمع مدني عِلماني ديمقراطي. و لكن ولكي تكتمل مكونات هكذا مجتمع علينا قطع شوط كبير في الفكر والممارسة في عِدة نواحي :-
أولها :- الاعتراف بثنائية الهوية الوطنية الفلسطينية، أي الإسلامية، والمسيحية، بغض النظر عن النسب، وذلك من خلال الدستور، وضمان حق الترشح لكافة المواقع، وخاصة الرئاسة، لكل أبناء الشعب الفلسطيني، مروراً بالمناهج التدريسية من حيث تعريف الطلاب بالتراث المسيحي وخصوصا أنه فلسطيني المنشأ، ومن الممكن أن يكون ذلك من خلال إضافة مواد إلى منهج التربية الدينية لكلا الديانتين.
ثانيا:- وهو الأهم تقليل مكانة القضاء الشرعي في مقابل القضاء المدني، وتعزيز سلطة القانون والقضاء المدني وصولاً إلى بناء مجتمع فلسطيني علماني.
حتى ذلك الحين، ولاعتبارات محلية وإقليمية عديدة علينا أن نعي بأن الكوتا و إن تُرجمت بشكل صحيح تكون قد ساهمت إيجابياً في الحفاظ على الهوية الديمقراطية. و لكن و إن فُهمت و مورست خطأ فإن عواقب ذلك قد تكون وخيمة، وتصب بالاتجاه المعاكس.
فمثلاً هناك من ذهب إلى حد المطالبة بتحديد الهوية العِرقية لرئيس البلدية أي المنشأ التاريخي، و أن لا يقتصر ذلك على الهوية الدينية، وهذا بحد ذاتهِ مزيد من التقوقع والانغلاق.
وأعتقد أن هذا هو أحد الأسباب التي دعت الرئيس لإعادة إطلاق المرسوم الرئاسي في هذا الوقت.
و لهذه الأسباب مجتمعة، ولكي يتم تحقيق تقدم ملموس نحو مجتمع مدني ديمقراطي يجب الحفاظ على الكوتة النسائية، والدينية، والعمل بشكل جدي من قبل المؤسسات، والأحزاب، والأفراد الحريصين على بناء مجتمع تسودهُ العدالة والديمقراطية والمساواة؛ حتى نتمكن من إلغاء كل أنواع الكوتات لبناء مجتمع خالي من التعصب، والكراهية، والقبلية، وهذا بحاجة إلى جهود جبارة، وخطوات جريئة لنضمن لبناتنا وأبناءنا مستقبلا مُشرقا.