يجب أن تتم المباشرة في عملية إدارة تغيير شاملة من أجل حشد كل الدعم اللازم لنجاح تطبيق قانون الضمان الاجتماعي المُعدل بالسرعة والفعالية المطلوبة وفقاً لمعايير علمية وممارسات فضلى تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الواقع الفلسطيني، وبشكل يضمن أكبر قدر من المشاركة الفاعلة التي لن تتحقق إلا من خلال بناء أكبر قدر ممكن من التوافق، بالإضافة إلى معالجة شاملة تحول المقاومة التي لا تزال تبديها قطاعات واسعة إلى دعم واجب لعملية إدارة التغيير على نحو أمثل. وفي هذا السياق، من المتوقع أن تشرع اللجنة الوزارية في هذا العملية من خلال دعوة كل من يهمه الأمر لتقديم اسهامات وملاحظات موثقة لمدة زمنية محددة، بما يمكنها ويمكننا جميعاً من التحقق من امتداد وتغطية الحوار لمختلف الهموم والاعتراضات والمقترحات والمطالبات المشروعة. كما ونتوقع أن تمتد تلك الدعوة[ii] إلى كافة أعضاء المجلسين التشريعي والوطني بمن فيهم القابعون في السجون وقطاع غزة والشتات للإدلاء بدلوهم بهدف خلق أكبر اجماع وطني قادر افتراضياً وواقعياً على منح السيد الرئيس تفويضاً يعالج القيود التي تضمنتها المادة 43 من القانون الأساسي. وإذا ما تحقق ذلك، فلن يكون بمقدور أي مجلس تشريعي مستقبلاً إلا أن يقر قراراً بقانون اجمعت عليه مختلف الهيئات التمثيلية للشعب الفلسطيني.
مرةً أخرى، نتوقع أن تتضمن المسودة التوافقية التي سترفعها الحكومة إلى سيادة الرئيس على سبيل المثال لا الحصر:
1. تعديل المادة (18) من القرار بقانون رقم (6) لسنة 2016 بما يفوت الفرصة على إسرائيل لاتخاذ تركيبة مجلس إدارة مؤسسة الضمان الاجتماعي كذريعة للامتناع عن تحويل مستحقات العمال الفلسطينيين الى مؤسسة الضمان الاجتماعي مستشهدةً في ادعائها بتمثيل حكومي بارز وبتعيين ممثلي العمال وأصحاب العمل بقرار حكومي بناء على تنسيب من وزارتين حكوميتين. ونقترح في هذا السياق أن تنحصر تركيبة وعضوية مجلس الإدارة في ممثلين عن العاملين وأصحاب العمل بمن فيهم ادارات وموظفي المنظمات الأهلية والمؤسسات التعليمية وفلسطينيي الشتات.
2. على مستوى تأمين إصابات العمل، تنص المادة رقم 116 من قانون العمل رقم 7 لسنة 2000 على وجوب قيام صاحب العمل بالتأمين "على العاملين لديه عن إصابات العمل لدى الجهات المرخصة في فلسطين"، بحيث يتم التأمين والتعويض في حال وقوع إصابة عمل على أساس الراتب الشهري للعامل بالغاً ما بلغ وليس على أساس مضاعفات الحد الأدنى للأجور أو الراتب الذي اتخذ اساساً لتسديد الاشتراكات كما هو منصوص عليه في الفقرة (1) من المادة (74) والمادتين (78) و (79) من القرار بقانون رقم (6) لسنة 2016. ينبغي أخذ ذلك بعين الاعتبار عند اجراء التعديل المرتقب لأن التأمين على أساس مضاعفات الحد الأدنى للأجور ينطوي على انتقاص من حق مكتسب للعامل بموجب قانون العمل ساري المفعول. ما المجحف في أن يتحمل كل قطاع اقتصادي تكلفة تأمين إصابات العمل وفق التعرفة السارية، وبما لا يتعارض مع تعليمات هيئة سوق رأس المال الفلسطينية سارية المفعول؟ لم لا نعيد النظر في الاشتراك الواجب على صاحب العمل أداؤه بدل تأمين إصابات العمل (1.6% من أجر العامل المؤمن عليه) خاصةً وأن تكلفة تأمين إصابات العمل لقطاع واسع من المشغلين تبلغ 0.5%؟ ولماذا لا يتم تخفيض نسبة الاشتراك التي حددها القرار بقانون عن اصابات العمل واضافة الفرق الى الاشتراك الذي يؤديه صاحب العمل عن العامل الى مؤسسة الضمان الاجتماعي، سيما وأن مساهمة رب العمل محدودة من منظور العاملين الذين يستشهدون بارتفاع مساهمات صاحب العمل في دول الجوار عن النسبة المنصوص عليها في القرار بالقانون.
3. الإبقاء على إدارة أنظمة التأمين الصحي على النحو المعمول به حالياً؛ وذلك لأن تخوفات العاملين (بشأن مدى جودة خدمة التأمين الصحي بعد نقل إدارتها إلى نظام تقاعد الشيخوخة التكميلي وفق الفقرة 4 من المادة (116)) وقلق الشركات المقدمة لخدمة التأمين الصحي (من حيث خسارتها المتوقعة للدخل المتحقق من بوالص التأمين الصحي بعد نقل إدارتها الى النظام التكميلي) سيشكلان عنصر ممانعة لا دعم لعملية التغيير اللازمة لنجاحنا في تطبيق الضمان الاجتماعي على نحو أمثل. أما في حال كانت مقتضيات الصالح العام توجب نقل إدارة أنظمة التأمين الصحي إلى نظام تقاعد الشيخوخة التكميلي، فينبغي أن تتم طمأنة جمهور المستفيدين والمزودين لخدمة التأمين الصحي على حد السواء من خلال تسليط الضوء على المزايا والمنافع التي ستترتب على نقل إدارة أنظمة التأمين وفق الفقرة 4 من المادة (116).
تقتضي الأمانة أن ننوه مراراً وتكراراً إلى أن الدفع نحو تطبيق القرار بقانون دون معالجة شاملة لمختلف الإشكالات القائمة سيشكل طعنة للأجيال القادمة، مع رسالة مفادها أن ما عجز أسلافهم عن تحقيقه سيستحيل عليهم أن يحققوه؛ ذلك أن التطبيق المنقوص سيرسخ في ذاكرة أبنائنا حكايات عن سلف تقاعس عن أداء الواجب تجاه نفسه وتجاه بناة مستقبله أو سنتصف بالوهن والعجز عن انتاج قانون متوازن لا يترك صغيرة أو كبيرة في دائرة المجهول أو تعدد التأويل والاجتهادات؛ وهن وعجز سينتقل نفسياً لا بالوراثة لهم، وسيحول دون تمتعهم بأمن اجتماعي يعزز حب الوطن والفخر بالانتماء له. إن السعي نحو التطبيق تحت شعار "شيء افضل من لا شيء" ينطوي على محاذير أبرزها أن مستقبل أبناءنا يحتم علينا السعي لتحقيق "الشيء" الأمثل من خلال تدعيم ركائز الضمان الشامل الذي انتظرناه طويلاً لا مجرد "أي شيء".
يجب أـن نبني بعناية فائقة على ما شهدته الساحة الاجتماعية–الاقتصادية الفلسطينية من إجماع غير مسبوق على مدى أهمية معالجة ما تبقى من إشكاليات وإجراء التعديلات الواجبة في مسودة هذا القانون، خاصةً وأن مثل هذه الفرصة قد لا تتكرر مستقبلاً لجعل عيون وأفئدة فلسطينيي العالم ترتبط اقتصادياً واجتماعياً بفلسطين جديدة تكون فيها مؤسسة الضمان الاجتماعي عنصر جذب لا يقل في أهميته ودوره وإنجازاته المستقبلية عما حققه آخرون خارج فلسطين عن طريق مأسسة مدروسة لإمكانات مالية وتطلعات قومية تحت مظلة صندوق قومي جعل من أرضنا محط أنظار واستثمارات مجزية... إننا، ومن داخل فلسطين، الأقدر على جعل الضمان الاجتماعي المنتظر قِبَلةً أولى لكل الفلسطينيين في الوطن والشتات، قِبَلةً أخرى تدق على الدوام ناقوس التشبت بالأرض للمرابطين وعودة وشيكة للمغتربين مهما طالت الغربة؛ وذلك كله من خلال ما ستجسده مؤسسة الضمان الاجتماعي من أمل بأمن اجتماعي-اقتصادي يعزز استدامة تشبتنا وعودة مغتربينا إلى أرض الوطن أو بالحد الأدنى من خلال ما ستوفره تلك المؤسسة من مقومات حياة كريمة للفلسطينيين أينما كانوا من مساهمات واشتراكات يؤدونها إلى الصندوق لا منة من أحد عليهم.
لا خيار أمامنا إلا أن نعوِّل على إمكانية بناء فلسطين حديثة بإمكانات مؤسسة الضمان الاجتماعي المنتظرة خاصةً إذا ما تبنت الأخيرة حسب ما هو متوقع رؤية بناء اقتصادي شامل[iii] تتجاوز محددات وأهداف الصناديق الاستثمارية من خلال تدعيم ركائز اقتصادنا الوطني عبر بناء ما تحتاجه فلسطين من منشآت ومصانع وشركات ومزارع قادرة على توظيف قوانا العاملة مع تحقيق عائدات كافية لاستدامة عمل المؤسسة ووفائها بالتزاماتها تجاه الوطن والمشتركين بالمؤسسة على حد السواء. ستستمد المؤسسة الدفع اللازم لنجاحها في بناء فلسطيننا الحديثة من ولاء جمهور المشتركين في المؤسسة والعاملين في القطاعات الانتاجية والخدمية التي ستبنيها ومن انحيازهم التلقائي لتفضيل خدمات ومنتجات المؤسسات الاقتصاية الناشئة لدرجة تكفي لأن تحل تلك الخدمات والمنتجات محل تلك المستوردة من إسرائيل والخارج. ولنا الكثير من العبر ومعززات الأمل في نجاحنا بعملية البناء تلك، خاصةً إذا ما وضعنا نصب أعيننا كيف أن تعداد وكثرة عتاد القواعد العسكرية التي لا تزال جاثمة على أراضِ ألمانية ويابانية لم تحُل دون إعادة بناء ألمانيا ويابان حديثة من بين الركام وصولاً لتبوء كل منهما مكانة مرموقة في الساحة الاقتصادية الدولية.
[i] تعبر هذه المقالة عن رأي الكاتب حصراً، وتسلط الضوء في بعض من جوانبها على قضايا جوهرية سبق أن تم طرح بعضها عبر منابر إعلامية وطنية متعددة.
[ii] إن من شأن تحقيق هذه الدعوة أن يشكل حلاً منطقياً للإشكالية الدستورية التي أثارها الأستاذ المحامي هيثم لطفي الزعبي في البندين "سابعا" و "ثامنا" من مقالة "الضمان الاجتماعي..." المنشورة في صفحة 13 من جريدة القدس بتاريخ 29/04/2016؛ وذلك استناداً إلى منطق مفاده أن الحراك الشعبي منقطع النظير ومشاركة ومساهمات أعضاء المجلسين التشريعي والوطني المرتقبة في اعداد واعتماد مسودة قانون الضمان الاجتماعي يشرعان صفة "الضرورة التي لا تحتمل التأجيل" في إصدار القرار بقانون رقم (6) لسنة 2016 بشأن الضمان الاجتماعي بحسب المادة 43 من القانون الأساسي، الأمر الذي سيشكل مرجعية وطنية شاملة لا بد لأي مجلس تشريعي منتخب مستقبلاً أن يأخذها بعين الاعتبار عند عرض القرار بقانون عليه للمصادقة. وهذا التصور قائم على أساس أن روح وجوهر القانون الأساسي لا يقلان أهمية عن نص مواد القانون، وبالتالي فإن المجلس التشريعي القادم سيعتبر أن مشاركة الهيئتين التمثيليتين للشعب الفلسطيني في تعديل واخراج قانون ضمان اجتماعي بمثابة اجماع وطني لا بد له من البناء عليه.
[iii] مع مراعاة مخاطر ومحددات تركز الاستثمارات في السياسة الاستثمارية للمؤسسة الضمان الاجتماعي، من المتوقع أن تتبنى المؤسسة استراتيجية جريئة لبناء اقتصاد وطني شاملة تقوم من خلالها بالاستثمار في قطاعات انتاجية وخدمية من جملة تلك التي يحتاجها الاقتصاد الفلسطيني، بحيث يتم مواجهة أية مخاطر محتملة لاستثماراتها في الوطن من خلال تحفيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل تسهم جميعها في تدعيم ركائز الاقتصاد الفلسطيني.