الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

منطق التفنيش وواقع الترقيع/ بقلم نور عودة

وعلامةُ رَفعِهِ الفِكرةْ

2016-08-16 11:27:45 AM
منطق التفنيش وواقع الترقيع/ بقلم نور عودة
نور عودة

ترّحل التفاصيل في حياتنا إلى مرحلة اصطلح عليها مرحلة "التفنيش" والتي تتدهور عادة وبسرعة قاهرة إلى حالة من "الترقيع".

 

في البناء، يصر الكثيرون على رفض الاستعانة بتقنيات حديثة وغير مكلفة لضمان استقامة الزوايا، معتمدين على الاعتقاد الذي لم يثبت صحته أن ما يأتي بعد البناء من أعمال ستصلّح العيوب في مرحلة "التفنيش" غير أن الأمر ينتهي بالترقيع، ولا تحاكي زاوية مثيلتها، ولا يستقيم حائط دون إضافات وخدع بصرية. ويستمر منطق "التفنيش في أعمال النجارة والحدادة وغيرها من الأشغال فيأتي النجار مثلا بما طلبت من أثاث ويؤكد لك أن كل العيوب التي تراها من كدمات وجروح وغيرها من التفاصيل ستختفي بشكل سحري في مرحلة "التفنيش"، وعندها بحسب الوعود، ستكون راضياً وسعيداً. ثم يأتي يوم "التفنيش" هذا وتكتشف أن الحلَّ السحريَّ ما هو إلا جولة ترقيعات سريعة؛ لإخفاء ما يمكن إخفاؤه من العيوب والتسليم بما استعصى منها على اعتبار أن إصلاحها الآن يتطلب خراباً وعناءً أنت بغنى عنهما،خاصة وأنه سيتطلب وقتاً وربما مالاً لا تمتلكه.

 

وبعيداً عن النجارة والحدادة والبناء، منطق التفنيش يطبّق في أمور أخرى أيضا حيث لا يحتمل الموضوع خللا، كأن نرى مثلا شارعاً تجري فيه الأعمال مرتين لأن الإصلاح في المرة الأولى لم يأخذ البنى التحتية بعين الاعتبار مثلاً، أو في إعداد خطة ما بحيث تعدّ الخطة الأولى بشكل نظري أو من قبل قليلي الخبرة أو من ليسوا أصحاب الاختصاص، ثم يُصار إلى استدعاء الخبراء وأصحاب الاختصاص للتفتيش و"الترقيع" أو إعادة الجهد من أوله.

 

من منا لم يخض تجربة "التفنيش" المضنية هذه أكثر من مرة ومع أناس كثر ولأسباب وظروف مختلفة؟

 

الأمر لا يتعلق بمهنة أو حرفة بعينها، بل ينسحب على معظم المجالات العملية في حياتنا وهو في جوهره انعكاس لثقافة تنبذ التفاصيل رغم أهميتها وتتهرب من الدقة والمنهجية باعتبارهما أساليب لا حاجة لها طالما أن الأمور تسير على "التساهيل" دونما حاجة إلى حسابات ومعايير ودراسة مسبقة قبل التنفيذ.

 

في كل حالات "التفنيش" و"الترقيع"، تُهدر طاقاتٌ وأموالٌ لا حاجة لإضاعتها لو كان العمل منهجياً وعلمياً منذ البداية. ولا يُستثنى من ذلك العمل الحزبي والسياسي بحيث ترى جهوداً ضخمة تُبذل لإنجاح خطوة تكتيكية بينما يتم تجاهل العيوب الجوهرية والأساسية، ما يتسبب في غالب الأحيان بضياع الجهود والفرص وإهدار الطاقات أو الاحتفاء بالتكتيكي على حساب الاستراتيجي.

 

وفي أجواء الانتخابات البلدية الحالية، يبدو أن الأحزاب السياسية قد آثرت منطق "التفنيش" وواقع "الترقيع" بعد أن باغتتها الانتخابات وهي لم تعالج من مشاكلها الجوهرية شيئا.

 

إحدى عشرة سنة مضت على الانتخابات التشريعية السابقة، وما كشفت من عيوب جوهرية وبنيوية في نظامنا السياسي تجلّت في ذروتها بمشاركة أحزاب في العملية السياسية تناهض القانون الأساسي ومنطلقاته وتجاهر بعدائها له ولمفرداته وإنجازاته. رغم ذلك، تجذر الانفصام السياسي هذا دون معالجة وكأنه لم يُنتج شرخاً عميقاً في المجتمع والنظام السياسي. وفي تجربة الانتخابات اسُتخدم الدجل والتكفير والتحريض والتخوين أسلوباً انتخابياً لاستقطاب الأصوات استمر بعد ذلك وبصورة دموية في الاقتتال والانقلاب وما تبعه من آثار الانقسام المستمر ولم نعالج هذه الظاهرة.

 

خاضت الأحزاب اليسارية التي يفخر كل فلسطيني بإرثها النضالي معترك الانتخابات وحصدت حصة زهيدة لا تتناسب مع تاريخها لكنها لم تعمل على تجديد هيئاتها أو استقطاب الشباب أو مواءمة خطابها وسياساتها مع المرحلة. ورغم ذلك أصرت على خوض غمار الانتخابات بقائمة موحدة دون أن تتخذ إجراءات تضمن لتيار اليسار نتائج مشرفة تدعم التيار الوطني المدني في مواجهة الأصولية والإسلام السياسي.

 

وكان لحركة فتح تجربة مريرة كشفت انعداما للانضباط الحركي وضياعاً للمفاهيم المشتركة داخل الحركة التي ورغم عقد مؤتمرها السادس بعد الانقلاب وتجديد هيئاتها إلا أنها لم تنجح في توحيد خطابها ورؤيتها بشكل يُحدث نقلة نوعية في آدائها وفرقاً في طرحها وتواصلها مع الشباب خاصة والمجتمع بشكل عام. ورغم النتائج المؤلمة للحركة في انتخابات جامعات محورية مثل بيرزيت وغيرها، فضلاً على الانتخابات البلدية في 2013، إلا أن فتح لا يبدو أنها مقدمة على أي تغيير في الطرح أو التوجه يبشر بتغيير في النتائج حتى الآن.

 

أما حركة حماس التي حققت فوزاً كاسحاً في الانتخابات التشريعية السابقة، فتتعاطى مع الانتخابات بمنطق الإنكار الذي يتجاهل الأسباب والظروف التي قادتها للفوز وتجربة الشعب الفلسطيني الذي ذاق المر والعذاب خلال السنوات العشر الأخيرة خاصة في قطاع غزة المختطف.

 

من الممكن أن نتعايش مع قطعة أثاث بعيوب لم تغطها أعمال"التفنيش" و"الترقيع" لأنها ببساطة لا تؤثر على حياتنا بشكل جوهري. لكن منطق "التفنيش" و"الترقيع" في الانتخابات التي يجب أن تؤسس لانتخابات رئاسية وتشريعية، وتضع طابع وهوية النظام السياسي على المحك هي مجازفة متهورة وغير محسوبة. ما نحتاجه من جميع القوى هو طرح يعكس استيعابها لدروس الماضي وإدراكها لمتطلبات الحاضر والمستقبل. لا نريد تجاهلاً للتفاصيل وتفنيشا وترقيعا في الربع ساعة الأخيرة. من حقنا أن نطالب بمشهد تليق تفاصيله بنا، ولا يحتاج لترقيع وتلميع ينتج بريقاً لا يُشاهَد إلا حول صناديق الاقتراع.