غريب عسقلاني
أينما يكون الظلم يُولد الغضب وتكون المقتلة، ويكون القتيل والشهيد والسجين وتحضر الرموز وتكون الحكاية التي تشكل الأبجدية الأولى لحكاية بكر، أبجدية لا تعمل حسابا للعارضين الذين يؤولون ويفسرون الأحوال والتواريخ على هواهم.
ولأن القتيل غالبا ما يكون ضحية غدر ملتبس، يصبح شاهدا ثانويا على المرحلة، لكن الشهيد يبقى الشاهد على حق لم يساوم عليه، فيرتقي إلى جناته سعيدا، ويسكن أيقونة تضيء صدور الأجيال، ويتربع رمزا عصيا على المساومة.
أما السجين فهو الشهيد المؤجل، يحمل انتصاراته خلف القضبان، ويصارع من جديد ويكمل أبجدية النضال بأدوات محدودة، وإرادة غير محدودة.. يحفر في الوجدان الجمعي عميقا، وينقل المعركة إلى فضاء السلم والرحمة والعدل بين بني البشر، بما يبدع من صمود، وقدرة على ابتداع أدوات وأساليب، تفاجئ المتجشئين تأويلاتهم المكررة، فهم لا يفقهون فقه الحال خلف الأسوار، ولا يدركون وجوها أخري للحياة، ويعتبرون الحركة الأسيرة فاصلة تائهة على رقعة المتاح في لعبة مستقبل الشعوب، هم لا يحفظون رسائل السجناء، منذ تفجرت الثورة بعد سقوط الوطن كاملا في قبضة الاحتلال، ما يجعل الأمر في منتهى البساطة والبداهة ويجعل الأسئلة قائمة، نطلقها لأصحاب القرار:
هل قرأتم رسائل السجناء.
هل حملتم أينما ذهبتم مسبحة من نوى الزيتون أرسلها سجين لأمه وأبيه وزوجته وبنيه.
هل احتفظتم بالمناديل الخارجة من السجون، وقرأتم ما عليها من رسومات وإشارات ورموز.
هل رأيتم صورة الأقصى كما هي ساكنة في صدر السجين.
هل قرأتم ما يبدعه السجناء من كتابات وما يدور بينهم من نقاشات حول قضايا الإنسان والوطن.
وعلى الجانب الآخر، تكون الأسئلة أكثر جرأة.
هل سألتم زوجته كيف يكون الصبر على الفراق القسري زادها وطقسها اليومي.
هل رافقتم طفله الذي رسم أباه على الجدران، وسجل هداياه في مواجهات انتفاضة الحجر، وهل أدركتم أن هذا الطفل أصبح رجلا وأن السجين أصبح جداً وأنتم الغافلون عن فعل الزمن.
وهل تريثتم قليلا عندما أصابتكم وعكة طارئة وفكرتم قليلا كيف يرتع المرض في المحابس وزنازين العزل الانفرادي.
هل تضورتم جوعا عند إضراباكم عن الكلام، حتى تفقهوا إضراب البطون الخاوية.
ألف هل وأكثر..
لكن هل الأخيرة نطلقها على خجل لأننا ندرك عبث السؤال:
هل فكرتم يوما أن يكون يوم السجين هو يوم الخجل أمام حالة الانقسام والتشظي، والتراشق العبثي الذي يطيل من عمر الاحتلال.
أيها القابضون على القرار:
متى يخرج السجناء من إطارات البراويز ويدبون على الحصباء من جديد، ويشاركون في قراءة أخرى لواقع الحال في الوطن.
راجعوا النفس، فالأمر في غاية البساطة والبداهة، قبل أن تصب علينا جميعا لعنة الأجيال والوطن ولعنة الزمن.