قادَني الحَديثُ وابنتي، لَيالْ، منذ أيام إلى الشاهد الشهيد، ذي الإرث المجيد، ناجي سليم حسين العلي. ولوهلةٍ أصابني الذهول عند قولها، "بابا، مين ناجي العلي؟"؛ لأتنفس الصعداء فورَ ما هي استذكَرَتْ كيف سَبَقَ لي أن اِستَحسنتُ مهارتها في رَسمِ "حنظلة"؛ الذي تحتفظُ لهُ بِمُجَسمٍ فِضِّيٍ، تَيمُناً وَوِساما...
يا شهيداً لم تُكتب لكَ الشهادة، كما الميلاد، على الأرض التي أَحْبَبْت، وأحبَّتكْ! أيّةُ رصاصةٍ كافرةٍ سرقت الوعيَ منك (في 22/07/1987)؛ لتُفارق روحك المطمئنة طُهرَ جسدك (في 29/08/1987). كل عزائنا في أن شظايا تلك المارقة قد تركَت البُشرى في قلوب كُثرٍ من شَعبِك.. في المنفى، في السجن وعلى أرضك، في من عادوا بالأمس وجموع الآتين من بعد إلى مهدك.
يا من سَطَّرتَ في الإرث القومي مآثر كُبرى، لا أسطورةً أخرى، بما أُوتيتَ من عزمٍ شديدٍ وتصميمِ ثائرْ بفنٍ عريقٍ لِدَحرِ الوَهَنْ... وخُضْتَ التحدي ضد التَّردي بقولِ الحقيقةِ وَبَثِّ العِبَر؛ لِدَمْجِ رُؤانا وَرَدمِ الحُفَر، بِريشةِ واثقْ تَلَتِ الكَثير لإحياء جيلٍ لآخرِ رمق، على دربِ إخوة من رُموزٍ قَضَتْ (ومن قلوب كُثرٍ وا أسفاه مَضَتْ...)؛ لغرسِ الأمل بِأَنْ لا مُقام تَبقّى سوى الأرض التي أَنْبَتَتْكَ...
يا ناجي العليّ، عَفوَكَ عَفوَكْ!
قد أخطأنا حينَ نسينا أن نُعِّرف الأجيالَ بِكَ، حقَّ مَعرفتكْ!
وَأَضَعناكَ وَضِعنا مُنذُ حِدْنا عن دَربِك،
وَغَفلنا عمّا كان كلّ يومٍ واجباً في عهدك...
لِنَنغمس في ما انبغى ألاّ يَكونَ بعدك.
عفوَكَ عفوَكْ؛ لكل ما اقترفناهُ في حَقّكْ!
كلّ المقامات، وكل البدايات وكل البطولاتِ التي كانت قد انطلتْ.. مُنذُ مَقتلكْ،
لا تساوي رسمةً عرَّت بها خنوع "المَسخِ" ريشتك.
ما قيلَ، ما لم يُقَل بعدُ -عِرفاناً بِجمائلك – لن يرقى يوماً لمستوىً جاوزتهُ أُولى أربعين ألف لوحةٍ صَدَحَتْ بها...لأربعين سنةٍ...أناملك.
عَمَّ الجَفا...عَمَّ الجفافُ وَتَقَطّعت بِنا السُّبُلُ بَعْدَك، يا مَنْ أتقَنَتِ الخَيلُ فَنَّ وُرودِ عذب الماء في عَهدِكْ!
خَيلُكَ اليومَ عطشى، سُقماءْ؛ لاختلاط الماء باللا ماء...
وباستحياءٍ تَرتَشِفُ ما يظمئُ الروح من فَرطِ اللا ارتواء:
يا من أعدتَ للبوصلةِ وجهتها، نحو أرضك!
وتركت فينا حنظلة، أُيقونةَ عِزٍّ من بعدك...
أُتْرُكْ فاطمةَ لِمَن وَهَنوا؛ لِتَشُدَّ العَزم من خَلفِك،
والخيلُ العَطشى رَوَّضْها على وقعِ المَطَرِ من سُحُبِك،
وأَغْدِقْ علينا لِنَرتَوي عذباً من جَليلِ قِيَمِك...
وَتَجَلّّ الآنَ عن قربٍ...
في أفقٍ أوحدَ لِبَصيرة، لجُسورٍ كبرى، لوسيلة: نتلو بها رسائلك....؛
لِنُعَمِّدَّ الأجيال بَعدك،
بِعَبَقِ إرثِك،
وبالذي تُجَدِّدُ عَنقاء ذِكرِك،
يا الذي رَوَّضْتَ الخَيلَ بِشُربِ عَذبِ الماء من جَليلِ جَليلِ قيمك....