19 أيَّار 1988 - وإبَّان ذروة الانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى - تهبِطُ وحداتُ – جولاني – من المظلِّيين ذوي القبَّعات الحمراء إلى بلدَتِنا – عرَّابة، مسقط رأس أبو على مصطفى - على جُنحِ الظَّلام بالمئاتِ من الجنود لتفرضَ حظر التَّجوُّل، بعدَ أنْ تعرَّضتْ سيارة عسكريَّة مارَّة بالبلدة في مساءِ اليوم الماضي لهجومِ عشرات الشُّبان الصِّغار الَّذين احرقوها في نهاية المطاف؛ بعدَ أنْ فرَّ من كان فيها من الجنود إلى القاعدة العسكريَّة المُجاورة.
بدأتْ تلك الوحدات وبفِرَقٍ تتكوَّن من عشرات الجنود المُشاة والضُّباط بمداهمةِ البيوت بيتاً تلوَ آخر وتركَّزَ معظم نشاطها في الأحياءِ الشَّرْقيَّةِ الواسعة – مركز الحدث بالأمسْ – ومع بزوغ ضوء النَّهار؛ وصلَ الدَّورُ إلى بيتِنا الملاصِق لبيتِ - الحاج علي الزَّبري وزوجته " عمَّتي " الحاجَّة أنيسة وهما والِدا " أبو علي مصطفى " وأشقائه من المناضلين الَّذين كانوا يعيشون في المنافي، والَّذين انخرط معظمهم في العمل الفدائي مع انطلاقة الثورة الفلسطينيَّة في منتصف السِّتينيَّات.
بعدَ أنْ انتهوا من تفتيش البيت اقتادوني معهم مُعتَقَلاً – وكانت تلك هي المرَّة الرَّابعة الَّتي أُعتَقَلُ فيها في بضعِ سنوات؛ فكان امراً اعتياديَّاً بالنِّسبَةِ لي - عرَجوا إلى بابِ منزل جارنا وقريبنا - الحاج علي – طرقوا البابَ فأجابهم صوتُ الحاجَّة أم محمد من الدَّاخل: مَنْ على الباب ؟؟ أجابَ أحدُ ضبَّاطُهم بعربيَّةٍ ركيكة: جيشُ الدِّفاع !! إفتحي الباب.. فتَحَتْ الحاجَّةُ البابَ وتفاجأتْ بعشرات الجنود المُدجَّجين بالسِّلاح وأنا بينهم- وكانتْ هي والحاج علي قدْ بلغوا من الكِبَرِ عتيَّاً – سألها الضَّابط: أينَ أولادُكِ يا حاجَّة ؟ أجابَتْ بصوتٍ ثابتٍ يعبِّرُ عن قوَّةِ شكيمَتِها: هم هناكَ بعيدون.. في الخارج.. إنَّهم في قَطَرْ – وكان بعضهم منهم هناك فعلاً في ذلك الوقت – استدارَ نحوي وسألَني: ماذا تعني " قطر " أجبته باختصاروبالإنجليزيَّة أنَّها دولة من الدُّول النِّفطيَّة في الخليج العربي، وأبناؤها يعملون هناك فعلاً.. دلفوا إلى البيتِ على عجَلٍ وانتهوا من تفحُّصِهِ في بضعِ دقائق.. لمْ يكونوا يعلمون بطبيعةِ الحالِ أنَّ هذا البيت هو من أنجَبَ عدداً من المناضلين الَّذين كان لهم بصماتهم في مسيرة النِّضال الفلسطيني وأحدهم كان القائد أبو علي مصطفى والآخر كان الأخ والزَّميل تيسير الزَّبري، وأنَّ هذان العجوزان كان لهم إسهامهم الكبير في تلك المسيرة بما تيسَّرَ لهم من أبناءٍ مناضلين.. اختلَطَتْ مشاعري في تلك اللَّحظة بمزيجٍ الذِّكريات مع الحاضرِ المُمْتَزِجِ بثِقلِ حظرِ التَّجوُّل المفروض بفعلِ سطوَةش مئات الجنود المشاة في كلِّ زقاقٍ وميدان، ومع احتمالات المستقبل – قلتُ في نفسي: كيفَ لوْ عَلِموا حقيقةَ هذا البيت ؟؟ ربَّما كانوا قدْ نكَّلوا بالبيتِ ومن فيه وما فيه !!. كنْتُ لمْ اعرف عن قربٍ حتَّى الآنْ أيَّاً من أبناءِ ذلك الشَّيخ الوقور " الحاج علي " وعمَّتي المكافحة المائزة بقوَّةِ شكيمتها " الحاجَّة أنيسة " برغم صلة القرابة ما بيننا؛ وذلك بسبب وجودهم في المنافي وبسبب فارق السِّن والجيل، وبسبب منعي من السَّفر إلى الخارج. لكنَّني أذكر العديد من الأحاديث والوقائع الَّتي كنتُ سمِعتُها من أبي وأمِّي، والمتعلِّقة بهم، كما أنَّني أعرِفُ من مطالعاتي لأدبيَّات الثَّورة الفلسطينيَّة مواقعهم ودورهم المُميَّزْ، وتحديداً ما يتَّصِلُ بأبي علي مصطفى كقائدٍ متقدِّم في صفوف الجبهة الشَّعبيَّة لتحرير فلسطين، ومن قبلها كناشِطٍ متقدِّم في صفوفِ حركة القوميين العرب إلى جانب المرحوم جورج حبش في مطلعِ السِّتينيَّات من القرن الماضي.
دارتْ المناطق الفلسطينيَّة المحتلة فيما بعد ذلك من سنواتٍ على صفيحٍ ساخنٍ من الأحداث – كما هو معلوم – كما دارت المنطقة كلُّها على ذلك الصَّفيح إبَّان اندلاع أزمة الخليج عام 1990 وأفضى كلُّ ذلك إلى دخول مرحلة التَّسوية، وكان من مُفرزاتِها عودةِ الكثير من قادَّة الثورة الفلسطينيَّة إلى الدِّيار، ومن بينهم الشَّهيد أبو علي مصطفى. لكنْ لَمْ يتسَنَّ لوالده الحاج علي أنْ يَشْهدَ عودَتَهُ؛ فقد عاجلته أمراضُ الشَّيخوخةِ بالوفاة قبل ذلك، وقد عبَّرَ عن إحساسِه حيال ذلك إبَّان المُحاولةِ الأولى للسَّماحِ بعودَةِ أبو علي الَّتي رفضتها إسرائيل.
بعد السَّماح بعودته إلى الدِّيار أُتيحَ لي كما للآخرين معرفته عن قرب، وبحكمِ صلة القرابَةِ والجوار؛ كان لي العديد من الحوارات مع ذلك المناضل والقائد الوطني الكبير؛ وكان أنْ لَمَسْتُ عن قربٍ مدى اتِّزانِه ومقدارَ وعيهِ الشُّمولي على قضيَّةِ شعبه، ومدى رهافة إحساسه، وعمق مضامين فكره الواسع، وتأكَّدتُ بنفسي مدى نزاهتِه ونظافة يدِهِ؛ فقد عاشَ أبو علي فقيرَ ذات اليد محدوداً في معيشَتِه، حريصٌ على مراقبةِ إيراداتِه الماليَّة بما يكفي لمعيشَتِه المتواضعة، صارمٌ حاسِمٌ تجاه ذلك، واضحٌ صارمٌ تجاهَ قضايا شعبه، غير مُحايد حيالها.. عاشَ نزيهاً وقضى شهيداً.. قالَ لي ذات مرَّة، وفي حضرَةِ أيَّار عام 2000 إبَّان جلاء جيش الاحتلال عن جنوبِ لبنان: أشدُّ ما يؤلِمُ في سياقاتِ وعْيِنَا العربي الرَّاهن، وبفعلِ الانحيازات والحسابات الفئويَّة والشَّخصيَّة وإنكار الحقائق، هو منهج التَّشكيك بالظَّواهر النَّبيلة كظاهرةِ حزب الله – على سبيل المثال – ذاك الَّذي حمل البندقيَّة بشرف وكفاءَة، وكان من نتائج ذلك ما نشهده الآنْ من تحريرٍ لجنوب لبنان، وبرغم تحفُّظاتي الكثيرة على النِّظام السُّوري؛ إلَّا أنَّه لابدَّ من الإقرار بدوره في ذلك إنصافاً للحقيقة.. لقد كانَ مُحايداً موضوعيَّاً شموليَّاً في نَظْرَتِه لحقائق السِّياسة والجغرافيا والتَّاريخ، غير مُحايدٍ تجاه قضيَّة شعبه العادلة.. لقد كان أبو عي مصطفى - بحدِّ ذاته – ظاهرَةً نبيلة في مسار النِّضال الفلسطيني الطَّويل المرير.