اللغة العربية فيها من المفردات ما يُغني عن كثيرٍ من المقاربات البعيدة، كأن نسمي الانتخابات "عرساً ديمقراطياً" رغم أن الحياة الديمقراطية في وطننا متعثرةٌ منذ عقدٍ أو يزيد. لكن البعض ربما يقول إن لهذه المقاربة ما يبررها. فالأعراس في فلسطين موسمية، تماماً كما هي الانتخابات والأعراس مكلفة كما هو التحضير وإدارة عملية الاقتراع. وفي مجتمعنا، يكون للعائلة والقبيلة والعشيرة القول الفصل في مراسم وبروتوكولات الزواج دائماً. ويتضح مما يرشح من تفاصيل حول تحضير قوائم الانتخابات البلدية أن العائلات والعشائر والقبائل السياسية هي أيضاً من تقرر تفاصيل ومراسم "العرس الديمقراطي" فتتوافق على عقده أحياناً وتُلغيه باسم التوافق والقائمة الموحدة أحياناً أخرى. وبالنظر إلى مكانة المرأة في المجتمع ودورها الفعلي فيه، نرى دعواتٍ لأعراس تحجب اسم العروس، فتضع أول حرفٍ من اسمها أو تعرفها بأنها بنت فلان. وفي "العرس الديمقراطي"، نرى قوائم تعرف المرشحة بأنها زوجة فلان أو تحجب صورتها وتستبدلها بوردة وكأن المشاركة في هذا "العرس" رهن بإخفاء العروس واسمها وشخصيتها ولا يهم أنها وبمعايير الديمقراطية تكون مرشحة غير قادرة على تمثيل غيرها، لأنها وببساطة ارتضت بإسقاط حقها في تمثيل نفسها أولاً.
ولا تقتصر الموسمية على "العرس الديمقراطي" الذي ينادي كثيرون اليوم بتأجيله دونما اكتراث لتبعات التأجيل على ديمقراطية العرس المزعوم. فالموسمية أيضاً تطبق في مجالات حيوية أخرى كالأمن وتعبيد الشوارع وتطبيق القانون واحترام الحريات وغيرها من المجالات.
في تطبيق القانون، تعلن الأجهزة الأمنية عن بدء "حملة أمنية" في مدينة معينة وكأن الأمن يطبق في مواسم الحملات التي عادة ما تأتي بعد تفاقم أزمة ما واستعصاء استمرار إنكار المشكلة فتنتج أزمة متفجرة بدل أن تفكك مشكلة كان بالإمكان تجاوزها لو أن تطبيق القانون لم يخضع للموسمية. ونرى أوامر بالضبط والاعتقال تطبق خلال أقل من ساعة بحق صحافي لكنها تأخذ أياماً وأسابيع وأحياناً سنوات لتطبق بحق آخرين مطلوبون في قضايا جنائية. ونرى أيضاً حملات لشرطة المرور يتم خلالها توقيف السائقين الذين يهددون حياة الناس بخرقهم للقانون، كأن يسيروا في شارع عكس اتجاه السير أو أن يتجاهلوا إشارة قف أو أن يقطعوا الإشارة المرورية وهي حمراء متوقدة وغيرها من التصرفات الخطيرة. نهلل للحملة وأهميتها ثم نعود بعد انتهاء موسم الحملة لذات الواقع المتوتر على الطرقات، حيث لا يمكن لأحد أن يعتمد على الإشارات واتجاهات الشوارع لأن هناك من سيخالفها، معتمداً على طمأنينة انتهاء موسم المخالفات والحملات المرورية.
ونرى فلسطين تنضم للاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الانسان والحريات ثم نطالع بياناً مؤسفاً للناطق باسم الأجهزة الأمنية في الوكالة الرسمية "وفا" يتضمن هجوما وردحا واتهامات ترتقي لمستوى التهديد ضد صحيفة القدس بسبب تغطيتها للأحداث الخطيرة في نابلس ولا نسمع من نقابة الصحافيين موقفاً نقابياً يدافع عن الصحيفة والعاملين فيها. ثم يتم سحب البيان بعد ساعات، في خطوة تعكس تنبه من يتمتعون بمسؤولية وطنية وأخلاقية لخطورة البيان وتجاوزه للحدود الأخلاقية والقانونية والمهنية. لكن سحب البيان لم يخفي الارتجال والرعونة الذين تسببا للنظام السياسي بأكمله بأرق كان يمكن تلافيه لو أن الانسجام بين التزامات فلسطين القانونية والحقوقية وتطبيق هذه الالتزامات لم يكن موسمياً.
وبانتظار "العرس الديمقراطي"، نستمتع جميعاً بموسم تعبيد الشوارع وإصلاحها وإضافة الإنارة إلى الطرقات وغيرها من الأعمال التي وإن افترضنا بحسن نية أنها تتزامن مع موسم العرس الديمقراطي مصادفة، فهي في معظم الأحيان تبقى موسمية حسب توقيت التمويل أو غيره من الأحداث الموسمية.
ورغم مفارقات الموسمية العديدة، يبقى أن نشكر مناخنا وتواضع إمكانياتنا لأن بعض الأشياء لا طعم لها خارج موسمها، مثل فاكهة الصيف أو لوز الربيع... أما الانتخابات فيا حبذا لو توقفنا عن وصفها بالعرس أو الكرنفال أو أي شيء احتفالي موسمي يُخفي جدية طبيعتها ودورها في ترسيخ مبادئ الديمقراطية وتداول السلطات. لا نريد عرساً ديمقراطياً أو غيره بل فضاءات تتيح لنا ممارسة ما ننشده من ديمقراطية وحياة مدنية بشكل يومي ومستدام لأن ترسيخ مبادئ الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون لا تحتمل الموسمية.