"الموت هو عنصر متمم للحياة، فالإنسان لا يعيش كي يموت، بل يموت ليحيا". هذه الفكرة بالضبط هي التي جعلتني أميل إلى الكتابة بحثا عن شيء لا تعلّمه الجامعة حتى للذين يدرسون الطبّ، و هو علاج يجعلنا نحيا بعد الموت، رغم فناء الأجساد. هذا البحث زوّدني بإحساس جميل، بأنّني قادر على ترك مخطوط في زوايا القصر.
المخطوط أردته من نوع خاص جدا، دفترا سمّيته "الخابية"، وضعته في درج مكتبي أدوّن فيه تأمّلاتي في هذه الحياة. أخبّئ بين صفحاته ما أحفره في ظلام الحبر لعلّي أقبض على النور. قد تكون مجرّد لعبة مثل تلك التي كنت أمارسها كلّما ولجت قصر بشار العتيق لزيارة خالتي أمّ الخير. لا زلت أتصرّف كما كنت أفعل و أنا طفل. أقف في الزقاق المظلم الطويل كنفق في أعماق الأرض، أغمض عيني أنتظر لحظات، معتقدا بأنّني سأعثر على شيء غير مألوف بعد فتحهما. لكنّني لا أجد سوى الظلام. أمشي في الزقاق متحسّسا جدرانه الترابية، إلى أن يظهر لي النور لأدخل الجزء المنير من القصر، ثمّ أدخل زقاقا مظلما و هكذا إلى أن أصل إلى بيت خالتي أمّ الخير.
خالتي أمّ الخير تربطها بأمّي علاقة وطيدة، تسمّيها: " رْضيعْتي" و في الحقيقة هي لم ترضعها و لم ترضعني، هي تسمية تحملها القابلة الشعبية التي على يديها خرجت إلى هذه الحياة. علّمتني أمّي كيف أحترمها إذ لها فضل علينا. القصر هو روحها، لا معنى عندها لكلّ تلك العمارات و مساكن الإسمنت من حولها، تردّد دائما:
نفس العبارة تقريبا كنت أردّدها عندما كنت في الضفة الأخرى، كلّما عدت إلى بشار في زيارة أتخذ خلالها قرارا بعدم مغادرتها من جديد فأقول:
انهماك خالتي أمّ الخير في تحضير خبز "المخلّع" الذي تعبق منه رائحة البصل، و التوابل، كان أحلى النوافذ التي أطل منها مجدّدا على الحياة ببساطتها و حلاوتها. المخلّع من الأكلات التي نتناولها فنشعر بالدفء و الابتهاج.
خارج القصر محلات البيتزا تملأ المكان تنذر بحالة حصار للمخلّع و انهيار سور دافئ كان يجمعنا، كلّما نظرت إليها انتابني شعور بالغربة فأتساءل: هل يمكن لمن ذاق طعم المخلّع أن يستلذ طعم خبز آخر حتى و لو كان البيتزا؟
فوق مائدة خشبية صغيرة أمامنا تضع خالتي أمّ الخير المخلّع في طبق من الطين الأحمر له بريق، مزخرف برسوم وأشكال هندسية بألوان مختلفة، الأزرق، الأبيض، الأسود... تحضر بعد ذلك صينية نحاسية دائرية الشكل وضعت فيها كؤوس الشاي في تنسيق جميل، يتوسطها الإبريق و إلى جانبه الكأس الخلاط الذي يوضع فيه النعناع، و لا بدّ لربيعة الشاي و ربيعة السكر أن تأخذا مكانهما في هذا الأوركسترا الشايوي.. تتحرّك يد خالتي أمّ الخير بخفة الشابة العشرينية و هي تصبّ لنا الشاي، تطقطق الأساور الفضّية في معصمها الذي وشمته بشكل جميل لجريد النخيل.. أجلس إلى جانب زوجها عمّي عاشور الذي يتكئ على مخدّة الخملة. نحتسي الشاي و نأكل المخلّع.. نسترجع حكايات القصر العتيق و أبوابه الثلاث و أزقّته بممرّات الظلام و منافذ النور فيها،بكلّ ما تتجلى فيها من معاني ثنائية الحس و العقل، الظاهر و الباطن، الجميل و القبيح، و كما قيل:العوالم إنّما تترتّب بحسب قوّة نورها أو ضعفه.. قلت له مرّة مازحا:
تململ عمّي عاشور في برنسه و قال:
كلامه حرّك في داخلي شعورا بأنّ المدينة بدون سور عارية، بدون حماية، امرأة معرّضة للسبي و للاغتصاب. التقت نظراتي بنظرات عمّي عاشور، و كأنّ شيئا فيه سلّ تساؤلا من أعماقي، قلت له:
رسم عمّي عاشور ابتسامة اختصرت سخرية الواقع منّا و قال:
الغصّة لازالت تخنق صوته منذ فارقه ابنه عبد الرزاق، رفض أن يتزوّج ابنة عمّه، هاجر إلى فرنسا، تزوّج الرومية و صار اسمه كبيرا هنالك.. أمّا هنا فصار غصّة في حلق والديه و بعضا من أطلال السور... تزوّجت بنات خالتي أمّ الخير الستة، غادرن القصر و بقي حفيد صغير يؤنس وحدتهما، إنّه ابن الكبرى، اسمه يحي لا يتعدى عمره العشر سنوات.
الطريق بدا طويلا ممتدا إلى بلدة لحمر، أين يقف بيت سي مختار شامخا، مستعدّا لاحتوائنا أنا و عيسى و آخرين... مساحات لصمت الطبيعة بحفنات الرمل و التراب تستلقي على أرض عطشى ليد تزرع فيها الحياة. يخرجني من هواجسي صوت عيسى و هو يقول:
التزم عيسى صمتا غرس ناب القلق عميقا في روحي... و كأنّه راض على جرائم قادة الحوت تاجر المخدرات بيّض أمواله و صار اسمه لامعا في التجارة، قلت له:
نظراتي ثقبت شيئا ارتسم على وجهه، بدا كأنّ عليه أكواما من رماد..
ساد صمت بعث شيئا من الإحساس بالبرد في أعماقنا.. الطريق يمتد، لا شيء على جانبيه غير أفرشة التراب تحكي جوع المكان للاخضرار، و جوع الخابية للمؤونة.
كنت مثقلا لحظتها بالتفكير في جرائم قادة الحوت تاجر المخدرات، و في علاقتي بعيسى و بسي مختار، المسألة يعتقد عيسى أنّها أشبه ما تكون بالاختيار بين البقاء في وطن بكلّ تناقضاته أو الهجرة بعيدا عنه، ألهذه الدرجة صار سي مختار وطنا لنا؟
سكوته على جرائم قادة الحوت أغرقني في رمل الإحباط. إنّه يصرّ على استقبال الجميع في بيته. حاضن هو للشريف وللإرهابي، للنزيه، و للمختلس، كالوطن الذي يجمع أبناءه بقبحهم و جمالهم.. شيء أقوى منّي يشدّني إلى ذلك الرجل، الغد صار يقلقني، بدأت أقتنع بالنهاية التي يتوعدنا بها الدرويش:
و كأنّ عيسى غير معني بهواجسي تمتم:
هو يعرف جيّدا كم أعشق أنغام القناوي، و عندما يفتح المعلم بلال المحلة و يخرج الكرابيج و يبدأ في توحده مع شيء لا مرئي يهزّ جسده الأسمر، تتصاعد البخور، و معها تتعالى أنغام القنمبري، فينهال على الجسد الأسمر ضربا بالكرابيج، يسميها البولالات، المعلم بلال بلونه الأسود الداكن و جسمه الضخم ينتصب أمامنا، يغمض عينيه في حالة نشوة غير مفهومة لجسد تعذّبه البولالات، لكنّنا نجد لآلام جسده لذّة تتحسّسها أرواحنا المتعبة، نقف متجاوبين مع أنغام الغنمبري، مشدودين لقوة المعلم بلال... نتماسك بالأيدي، نرقص رقصته و نضرب هذه الأجساد المثقلة بأحلام أرهقتنا إلى أن تنهك قوانا، نرتمي أرضا، و البخور تتصاعد. أجواء أحتاجها كلّما زاد ألم روحي عن ألم الجسد.