بقلم: داوود الديك*
"لماذا وزارة التنمية الإجتماعية" سؤال مشروع ووجيه خصوصا في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة. سؤال يعيد إثارة الجدل حول امكانية وجدوى "التنمية" في ظل الاحتلال. لكن وبما أن مجلس الوزراء اتخذ قراره بتحويل وزارة الشؤون الإجتماعية إلى وزارة التنمية الإجتماعية في شهر آذار 2016، وصادق السيد الرئيس على ذلك بمرسوم رئاسي، فإن وزارة الشؤون أصبحت وزارة التنمية الاجتماعية.
قد يظن البعض أن الكرة الآن هي في ملعب الوزارة الوزارة فقط، وعلى الوزارة أن "تدبّر نفسها". وهذا غير صحيح وغير دقيق. لأن التنمية الاجتماعية هي بالأساس إطار سياسات كلية تتبناه الدولة والحكومة وتنفذه مختلف أجهزتها. أما فيما يتعلق بدور وزارة التنمية الاجتماعية، فإن الوزارة ومنذ إصدار القرار بل وقبل إصداره، تشهد عصفا ذهنيا وفكريا حول المفهوم، والرؤية، والرسالة، ودلالات وانعكاسات التحول إلى التنمية الإجتماعية. خصوصا أن إشكالية تحقيق التنمية في ظل الاحتلال لا تزال قائمة بين مؤيد معارض، وكذلك الغلاف المالي والاستحقاقات المالية للتنمية في ظل الأزمة المالية التي تواجهها الحكومة.
موضوعة التنمية في فلسطين تحت الاحتلال محفوفة بمهددات وبحقائق ومعطيات على الأرض. يكفي أن نشير إلى أن مناطق "ج" الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة تشكل 62% من مجمل أراضي الضفة الغربية. المجتمع الفلسطيني ونتيجة إجراءات الاحتلال لا يزال بحاجة إلى إغاثة ومساعدات إنسانية (2.3 مليون شخص)، وحوالي 90.000 فرد لا يزالون نازحين في غير منازلهم في قطاع غزة نتيجة العدوان الإسرائيلي عام 2014. الأراضي الفلسطينية مقطعة الأوصال نتيجة فصل الضفة عن غزة، وعزل القدس عن الضفة، ونتيجة جدار الفصل العنصري، ونتيجة البناء الاستطياني والمعسكرات والحواجز(150 مستوطنة، و 119 موقع عسكري)، ووجود حوالي (600.000) مستوطن على أراضي الضفة الغربية. ناهيك عن أن إسرائيل تسيطر على حوالي 85% من المياه الفلسطينية.
بالمقابل، فإن المجتمع الفلسطيني (4.8 مليون نسمة) وفئاته العريضة (مرأة، طفل، شباب) يعانون من التهميش والإقصاء. مجتمع 50% منه نساء، 50% أطفال، 30% شباب في الفئة العمرية 16-29 سنة، 5% كبار سن (فوق 60 عام). مجتمع فيه 25% من السكان تحت خط الفقر المدقع (في غزة 38.8%)، مجتمع 34% من أفراده غير آمنين غذائيا، ومجتمع فيه بطالة عالية تفوق 27%. ومجتمع نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة لا تتعدى 19%. ومجتمع 42% من السكان لاجئون..!! مجتمع معدلات الخصوبة فيه عالية (3.7).
ومهما يكن الوضع، فقد قبلت الوزارة هذا التحدي وهي تدرك تماما أن التنمية الاجتماعية بالأساس هي عملية وليست برنامجا. وهي إطار مفاهيمي وسياساتي يحقق تكاملا بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وتتطلب سياسات اقتصادية واجتماعية متآزرة، وهي قضية سياسات كلية. وهناك من يعتبر أن التنمية هي عملية إبداع إنساني، ويمكن للمجتمع أن يكتشف طاقاته الإبداعية عندما يقتنع أن الإنسان هو مصدر كل الطاقات. إذا العنصر البشري هو مصدر التنمية الإجتماعية وهو العنصر الحاسم فيها.
تتحق التنمية في المجتمع عندما تتوفر الإرادة الإجتماعية لاستنهاض الطاقات الإجتماعية والإنسانية الكامنة: من ثقافة وقيم ومعتقدات اجتماعية وأمن وبنى سياسية ومنظمات.
إن أية استراتيجية تنمية ينبغي أن تركز على تحرير الطاقات والمبادرات الفردية والإبداعية، وتدعم الروّاد والمبدعين.
كما أن تحقيق التنمية الإجتماعية يتطلب مسؤولية وطنية مشتركة بين مختلف الفاعلين الأساسيين من أفراد ومنظمات ومؤسسات، ويتطلب كذلك التركيز على العمل المحلي والموارد المحلية، ويتطلب مساءلة اجتماعية ومشاركة المواطنين.
في المحصلة، تهدف التنمية الاجتماعية إلى تحسين وتعزيز نوعية حياة الجميع، توفير الخدمات الأساسية للعائلات الفقيرة لتمكينها من التمتع بحياة كريمة ولائقة وفرص عمل، وتمكين كل شخص من أداء دور فعال وقيام كل شخص بهذا الدور. وفي السياق الفلسطيني تحت الاحتلال، يبقى تعزيز صمود ومنعة المجتمع الفلسطيني هو البوصلة الرئيسية.
وزارة التنمية الإجتماعية وهي في طور التحول، تستند إلى ثلاث مرجعيات: أجندة السياسات الوطنية 2017-2022: هي الإطار السياساتي المرجعي لعمل جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية. وما يخصنا بشكل رئيسي ومباشر يندرج تحت الأولوية الوطنية "العدالة الإجتماعية" ومنها تأتي الأولوية السياساتية "الحد من الفقر" بتدخلات سياسية: تطوير برامج التمكين الاقتصادي للفقراء، التأكد من مراعاة السياسات الاقتصادية والاجتماعية لمصالح الفقراء وإحتياجاتهم، توفير فرص عمل للفئات المهمشة ( الافراد ذوي الاعاقة، الشباب، النساء،الأسرى المحررين)، وتعزيز المسؤولية الاجتماعية.
وتتضمن أجندة السياسات الوطنية جملة أولويات سياساتية تتقاطع مع عدة استراتيجيات كقضايا النوع الاجتماعي : المساواة بين الجنسين والقضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء، وتوفير الرعاية الصحية للجميع لتحقيق حقوق ومصالح الفئات التي تخدمها الوزارة، توفير الحقق الأساسية للأطفال، وحماية ودعم المجتمعات الريفية، وقضايا الشباب، والأمن الغذائي.
وأهداف التنمية المستدامة 2030، وفي مقدمتها أهداف القضاء على الفقر والمساواة بين الجنسين. ومصادقة فلسطين على العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، ومطلوب تضمين التزامات دولة فلسطين في الاستراتيجيات القطاعية. وتحديدا اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وغيرها من الاتفاقيات ذات الصلة بعمل الوزارة.
تنطلق الوزارة في رؤيتها الجديدة من قاعدة اساسية معروفة وهي أن الإنسان هو محور التنمية وغايتها، وأن التنمية عملية تغيير، وفرص وحقوق، وعدالة ومساواة، وشراكة ومشاركة، وتعزيز منعة وصمود المجتمع، وتمكين أفراده، وأن الإنسان محور التنمية. وتعمل الوزارة على تقديم رؤيتها حول مجتمع فلسطيني منيع ومتضامن ومنتج ومبدع، يحرر طاقات أفراده، يؤمن بالحقوق والمساواة والعدالة والشراكة والإدماج. وستركز الوزارة في رسالتها على تحسين وتعزيز نوعية الحياة، وتوفير الخدمات الأساسية للعائلات الفقيرة لتمكينها من الحصول على فرص عمل وحياة كريمة، وحماية وتمكين الأفراد المهمشين (طفل، شاب، مرأة، معاق، مسن)، وإشراك المجتمع المدني والقطاع الخاص.
للتنمية مقاربات كثيرة، وتحاول الوزارة تبني إحداها أو خليطا منها بالنظر إلى خصوصية الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال. فمن مقاربة الحقوق التي تعنى بالحقوق الأساسية: اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية. وتتطلب مهارات وفرص وخدمات. إلى مقاربة التمكين التي تركز على التكوين والتوظيف وتنمية القدرات لإنتاج وتوزيع فرص الحياة على قاعدة الحقوق الأساسية وتكافؤ الفرص. وكذلك توسيع خيارات ومبادرات المواطنين من أجل ممارسة المشاركة في مجالات الحياة المختلفة وفي عملية صنع القرار.
وهنالك مقاربة التنمية المحلية أو الجهوية التي تشجع العمل المحلي والخيارات المحلية، والتركيز على الإطار المحلي كمولّد للتنمية، التوجه نحو اللامركزية وتفويض الصلاحيات، مشاركة فاعلة للمواطنين وهيئاتهم التمثيلية، ومنظمات المجتمع المدني، خلق مجال للتنافس والإبتكار بين الأفراد والجماعات والمنظمات. واعتماد منهج تخطيط خدمات الرعاية على المستوى المحلي. وهذا يعني أن تقود مديريات التنمية الإجتماعية في المحافظات العمل الاجتماعي التنموي وأن يضخ إليها كل الإمكانات.
إن ترجمة التحول إلى التنمية لا بد وأن يطال إعادة صنع السياسات القائمة على تعزيز الأسرة كوحدة أساسية في المجتمع والاعتراف بأنها تؤدي دورا رئيسيا في التنمية الإجتماعية، مع مراعاة حقوق أفرادها وقدراتهم ومسؤولياتهم.
والتركيز على تمكين ومشاركة الفقراء والمحرومين والضعفاء، وتجسيد أن العمل هو مصدر الدخل وليس المساعدات، والمساواة والإنصاف بين المرأة والرجل وكافحة العنف المبني على النوع الاجتماعي، وحماية حقوق الأطفال والشباب.
والتمكين الاجتماعي والاقتصادي (ولا سيما المرأة) هو هدف رئيسي من أهداف التنمية وموردها الأساسي، وتمكين كبار السن من العيش حياة أفضل، وإتاحة وصول وحصول الفقراء على التكنولوجيات الجديدة للمعلومات،وتعزيز السياسات والبرامج التي تضمن توسيع مشاركة المرأة في مختلف مجالات الحياة، والاهتمام بالطفولة المبكرة وتنمية قدرات الأطفال في هذا السن، وتنمية قدرات الاشخاص ذوي الإعاقة وإدماجهم اجتماعيا واقتصاديا، وتوفير المناخات والأدوات لانخراط مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص في جهد تحقيق التنمية الإجتماعية وفي تخطيط وتقديم خدمات الرعاية على المستوى المحلي، وإتاحة الفرص للمواطنين للمشاركة والمساهمة في تطوير وتنفيذ أجندة التنمية الإجتماعية وممارسة المساءلة الاجتماعية، والتركيز على الخيارات المحلية في تقديم الخدمات، واتباع منهج إدارة الحالة، والتوجه نحو نظام حماية إجتماعية تحويلي (يغير واقع الناس ويساعدهم على الإنتاج) بما يتضمنه ذلك من جعل المساعدات النقدية هي الملاذ الأخير وجعل توفير الخدمات الأساسية أولوية، وتحديد أنواع التهميش الرئيسية ذات الأولوية، وتمكين الأسر الفقيرة من الحق في السكن، وفي تحسين وضعها السكني.
وبالانتقال إلى تطبيقات التنمية الإجتماعية على مستوى البرامج (على سبيل المثال وليس الحصر):
الطفولة المبكرة: بما أن عماد التنمية الاجتماعية هو الإنسان، فإن أكثر مراحل نمر الإنسان حساسية وتاثيرا هي السنوات الأولى. من هنا يبدأ الاستثمار الحقيقي وتبدأ عجلة التنمية. تنمية الطفل في مراحله الأولى وتنمية مدركاته وأحاسيسه، تترك أثرا طويل الأمد على شخصيته وسلوكه فيما بعد. إذا الأولوية هي إعادة برمجة تدخلاتنا مع الأسرة ومع دور الحضانة. ليس على قاعدة مرخصة وغير مرخصة فقط، بل البدء بتطوير التدخلات داخل دور الحضانة لضمان تنئشئة سليمة للطفل.
انحراف الأحداث: مقاربة التنمية الاجتماعية كإطار تكاملي هي الكفيلة لمنع حدوث انحراف الأحداث، من خلال محاصرة منابع الانحراف(العائلة، المدرسة، الرفقاء،المجتمع) التي تؤثر على المواقف والسلوكيات. وهذه المقاربة تتطلب التركيز على توفير فرص ومهارات وإدماج لفئة الشباب. هي بالأساس تركز على الوقاية.
كبار السن: بعيدا عما اعتدنا تقديمه لكبار السن من مساعدات نقدية وإيواء، ينبغي التركيز ضمن توجه التنمية الاجتماعية على الشيخوخة النشطة. إدماج المسنين وتعزيز ثقتهم بأنفسم والاستفادة من مهاراتهم وخبراتهم هو السبيل لإنعاشهم نفسيا واجتماعيا. مطلوب الاستثمار أكثر في نوادي المسنين وفي الأنشطة التي تعزز مشاركتهم في الحياة وفي الشأن العام.
تمكين المرأة: دأبت الوزارة وغيرها من المؤسسات على التركيز على التمكين الاقتصادي للمرأة. واثبتت النتائج على الأرض أنه وعلى الرغم من مساعدة النساء على توفير وتوليد دخل، إلا أن هذا الدخل لم يؤدي إلى رفع مكانة المرأة اجتماعيا، ولم يؤثر على إعادة توزيع الأدوار التقليدية داخل الأسرة. المدخل الحقيقي للتمكين الشامل هو التمكين الاجتماعي بما يعززه ذلك من تعزيز ثقة المرأة بنفسها وبدورها، ومن احترام خياراتها وقراراتها. وكذلك تخفيف عبء الرعاية الاجتماعية عن كاهلها لكي تتمكن من التقرغ للنشاط الاقتصادي والانخراط في سوق العمل.
مكافحة العنف ضد المرأة: لا بد من اتباع النهج المتعدد القطاعات في التعاطي مع ظاهر العنف ضد المرأة multisectoral. وهو نهج يتقاطع عبر عدة قطاعات تشمل: الصحة (الصحة النفسية الاجتماعية والصحة العقلية)، الخدمات الاجتماعية، العدالة/القانون، الحماية والأمن، والتعليم. وهذا النهج يرتكز على الاحتياجات والحقوق للناجيات من العنف، والوصول إلى الخدمات، والسرية والسلامة. والجيد في هذا النهج هو تشجيع انخراط المجتمع المحلي في الوقاية وفي التصدي للعنف، وتحديدا يشرك النساء والفتيات المعنفات في تصميم التدخلات وتنفيذها ومتابعتها.
الأشخاص ذووا الإعاقة: التمكين والاندماج لا يأتيا إلا من خلال تعزيز فرص الوصول والحصول على الخدمات وعلى المشاركة في الحياة. ما يكرس إقصاء الأشخاص ذوي الإعاقة هو عزلتهم المفروضة عليهم من المجتمع سواء على مستوى النظرة لهم أو على مستوى حرمانهم من الخروج إلى الحياة العامة. التركيز مطلوب أولا على تهيئة المساكن والأماكن العامة لدخول وخروج وحركة الأشخاص ذوي الإعاقة، وتشغيل وإدماج الأشخاص ذوي الإعاقة. وهنا لا بد من من التركيز على المرأة ذات الإعاقة والمسنّة ذات الإعاقة لما لهما من خصوصية ولما لهذه الحالات من تعقيدات إضافية.
مقاربة مكافحة الفقر:
أ). اعتماد إدارة الحالة وتشخيص واقع الأسر الفقيرة كل على حدا، حصر مشاكلها واستعصاءاتها. تصميم حد أدنى ممكن من التدخلات الاجتماعية والخدماتية المبنية على احتياجات الأسرة (صحة، تعليم، سكن، ماء، كهرباء، تمديدات صحية).
ب) التمكين الاقتصادي
ج)مطلوب قرارات جريئة لمحاربة ثقافة الاتكالية والاعتمادية لدى الأسر من خلال تجسيد شعار"الدخل لا يتحقق إلا بالعمل وليس بالمساعدات". وهذا يتطلب تخفيض قيمة المساعدة إلى أدنى حد ممكن بحيث تصبح العائلة أمام التفكير بخيارات أخرى لتغيير ظروف معيشتها. مرة أخرى، يجب أن تكون المساعدة النقدية هي الملاذ الأخير وليس الأول باستثناء الأسر التي لا يمكن التدخل معها إلا بالمساعدة مثل كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة على سبيل المثال.
د).التحول التدريجي من التحويلات النقدية إلى تمليك الأسر أصول ومصادر للعيش assets transfer
ه). التعامل مع الفقر متعدد الأبعاد: بحيث لا يقتصر قياس الفقر على فقر الدخل بل يطال كذلك أبعادا أخرى تغطي الحرمان والتهميش والإقصاء الاجتماعي.
و) فصل مخصصات الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن عن برنامح مكافحة فقر الأسرة. وقد يكون من المناسب البدء بالتفكير بتأسيس أرضيات الحماية الاجتماعية Social Protection Floors أي الاتفاق على حد أدنى للحماية الاجتماعية يتكون من مخصصات لبعض الفئات ذات الأولوية بالحماية.
ز) مطلوب أن تكون جميع السياسات في جميع القطاعات حساسة وصديقة لفقراء وللمهمشين. بدون ذلك، فإننا سنتوقع مزيدا من الفقراء من ضحايا هذه السياسات التي لا تأخذ بعين الاعتبار الفئات الفقيرة والمهشمة. وللتدليل على ذلك، وحسب دراسة البنك الدولي، فإن رفع تسعيرة الكهرباء بنسبة (10%) يزيد معدلات الفقر بنسبة (1.5%)، ورفعها بنسبة (50%) يزيد معدلات الفقر بنسبة (5.8%).
الأمن الغذائي كأداة حماية إجتماعية وكرافعة للتنمية: وهذا يعني مراجعة مفهوم الأمن الغذائي وتحديد موقعه ومعاييره في منظومة الحماية الاجتماعية، ويعني كذلك تعريف دوره في التنمية الإجتماعية خصوصا إذا ارتكز على مساعدة وتمكين الأسر الفقيرة لإنتاج طعامها أو جزء منه. هنا مطلوب استغلال الزراعة المنزلية والحيازات الزراعية والحيوانية، والتصنيع الغذائي.
تحديد منابع التهميش ومحركاته والفئات المهمشة ذات الأولوية: لا ينبغي الاقتصار على موضوع فقر الدخل، بل مهم الإحاطة بأوجه التهميش التي تعمّق فقر الأسر وإقصاءها، والتي قد تنتج فقراء جدد. منها مثلا: انعدام الأمن الغذائي(سواء من حيث السعرات الحرارية لأنواع الطعام المستهلك، أو عدد الوجبات في اليوم)، ومنها أيضا انعدام الأمن الصحي(الظروف الصحية للمسكن من مجاري وكهرباء وعدد الغرف والاكتظاظ وتكلفة الطبابة على العلاج والأدوية، والتهميش أيضا يأتي من خلال البطالة وعدد ايام العمل أو التعطل. كلها مولّدات ومحركات للفقر.
يمكن حصر مولّدات أو محركات التهميش أو عوامله بخمس محركات بنيوية: الجغرافيا(مكان الاقامة)، الوضع الاقتصادي، القضايا الثقافية الاجتماعية، البيئة والثقافة المؤسساتية، والوضع السياسي.
ويمكن حصر الفئات الأكثر تهميشا والأكثر عرضة للنسيان والإهمال بعشرين فئة: الفتيات المراهقات، التجمعات البدوية والرعاة في مناطق ج، الأطفال ذوي الصعوبات في التعلم، الأطفال العاملون، الأطفال ضحايا العنف، سكان مناطق ج، كبار السن، أسر ترأسها نساء غير آمنة غذائيا، سكان غزة غير المتصلين بالمياه النظيفة والمجاري، سكان H2 في الخليل، الأفراد من هم بحاجة إلى تحويلات طبية عاجلة، الأطفال خارج التعليم، ذوي الإعاقة، سكان المناطق الحدودية والمحاذية للجدار، اللاجئون في فقر مدقع، اللاجئون في المخيمات، صغار المزارعين وصغار الصيادين، النساء المعنفات،العمّال الفقراء، الشباب (15-29 سنة).
إعادة بناء العلاقة مع الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص: كما أن الإنسان هو محور التنمية، فإن المجتمعات المحلية هي الأساس في ترتيب وتنسيق العمل الجماعي والتنموي. لا يكفي مراجعة التقارير المالية والإدارية، ولا يكفي دورية الانتخابات. المطلوب للتنمية هو مضمون ما تقدمه هذه الجمعيات على المستوى المحلي. مطلوب ضمات تغطية عادلة على مستوى جغرافي وعلى مستوى البرامج والخدمات، وتطوير معايير جودة للخدمات، تطوير نظام الاعتماد، بناء مجموعات تخطيط مشترك على مستوى المحافظات، تطوير أنظمة التحويل المحلية لتوزيع الأدوار في تقديم الخدمات وانتهاج سبيل تخطيط خدمات الرعاية المحلية. كذلك لا بد من بناء نموذج للشراكة مع القطاع الخاص على قاعدة المسؤولية الإجتماعية.
إعادة صياغة خطاب الزكاة وتوجيهه نحو التنمية: الزكاة ومواردها تعتبر رصيدا وطنيا لا يستهان به، ويمكن الاستفادة منه في دعم قضايا التنمية وتغيير حياة الناس إلى الأفضل إذا ما تم تصميم تدخلات للفئات التي تنطبق عليها بنود صرف الزكاة سواء كان ذلك دعم الوضع الصحي والتعليم والسكن ومشاريع إدرار الدخل. وهذا يتطلب فتح حوار سياساتي مع وزارة الأوقاف ولجان الزكاة والمجتمع واستقطابهم لفكرة التنمية ولفكرة تعزيز التنسيق والتعاون والتكامل وتبادل البيانات وضمان عدم التداخل والازدواجية في المساعدات وفي كفالات الأيتام وغيرهأ.
تطوير مكون الإرشاد و الدعم النفسي والاجتماعي: وهذا يعيد الاعتبار للدعم النفسي والاجتماعي والإرشاد الأسري والتوعية. ومن شأنه أن يشكل وقاية لكثير من الظواهر كالعنف والمخدرات والانحراف وغيرها. وهذا يتطلب إنشاء دائرة للدعم النفسي أو الصحة النفسية أو الإرشاد الأسري. ولا بد من تعزيز التتنسيق والتكامل بين الباحثين الاجتماعيين والمرشدين التربويين في المدارس.
تعظيم الأـثر التنموي للمساعدات الإنسانية وربطها مع الحماية الاجتماعية: وهذا يتطلب أولا ضبط وتوحيد وتنسيق المساعدات الإغاثية والإنسانية على قاعدة الشفافية والحوكمة والتكامل وعدم التداخل في الأدوار والصلاحيات وبناء على معايير واضحة وشفافة. وهذا يتطلب إنشاء بوابة الكترونية موحدة للمساعدات يتم تغذيتها من جميع المؤسسات المقدّمة للمساعدات. وهذا يشمل جميع عمليات التدخل الأنساني التي تقدمها المنظمات الدولية والمانحون. مفروض أن تكون قيادة هذا التدخل للمؤسسات الحكومية وليس الدولية.
كذلك مطلوب تغيير ابعاد التدخلات الإنسانية تحت مظلة حماية اجتماعية مستجيبة وحساسة للصدمات تفضي إلى تعزيز منعة الأسر لمواجهة حالات الطوارىء والخروج منها بأقل الأضرار. إذا نحن أمام استحقاق الربط وخلق التآزر والتكامل بين التدخلات الإنسانية وبين مكونات نظام الحماية الاجتماعية. ويبقى التحدي في مراكمة الأثر التنموي للمساعدات والتدخلات الإنسانية.
أما على مستوى الاستهدافات والأولويات، فإن الوزارة تسعى إلى تحديد بوصلة أولوياتها واستهدافاتها لتشمل:
أولا: المرأة (النوع الاجتماعي) بالتركيز على النساء ذوات الإعاقة، وكبيرات السن، والنساء في المناطق المهمشة.
ثانيا: الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن (وتحديدا المرأة وكبار السن المعاقين)
ثالثا: الشباب (القراء والمحرومين من المهارات والفرص)
رابعا: الأطفال (التركيز على الطفولة المبكرة)
أما أولويات الاستهداف الجغرافي، فستتمحور حول القدس، وقطاع غزة، ومناطق ج، والأغوار، والتجمعات الأكثر فقرا وتهميشا حسب أطلس الفقر.
إن تطبيق مفهوم التنمية والحقوق يتطلب توفير معايير الشفافية والنزاهة والمساءلة الاجتماعية. لا تتحقق التنمية إلا بالشراكة والتضامن والتعاضد بين الإنسان والمجتمع والمؤسسات. مطلوب تعزيز وتمكين قدرات وإمكانيات المواطنين على ممارسة المساءلة الاجتماعية، وتوفير الأدوات اللازمة لتمكينهم من المطالبة بحقوقهم ومن الاعتراض والشكوى والمشاركة. هنا نتحدث عن نظام الشكاوى، مجالس المستفيدين، والمساءلة الاجتماعية . مطلوب أن نصمم في كل برنامج مكون للمساءلة الاجتماعية. أي أن يكون الناس ورأي الناس أساسيا فيما نخططه وننفذه.
مطلوب بناء نظام رصد وتقييم، ونظام معلومات متطور، واستراتيجية تنمية الموارد البشرية، وبنية تحتية وخدماتية عصرية، وتشريعات حديثة، وبنية تنظيمية وهيكلية كفؤة ورشيقة، واستراتيجية اتصال فعالة.
إن طريق التحول إلى التنمية في حالتنا الفلسطينية المعقدة، مليء بالتحديات والعثرات بدءا بالاحتلال الثقيل على الأرض وعلى الحياة الفلسطينية بكل مكوناتها، ومرورا بالثقافة المؤسساتية التقليدية، وصولا إلى الغلاف المالي المتراجع وغير الممكّن للتنمية. مع ذلك، فإن هذا التحول يستحق أن يخاص بكل ثقة وجرأة ورباطة جأش.
* داوود الديك: الوكيل المساعد للتخطيط والتنمية الإدارية- وزارة التنمية الإجتماعية