الحدث- رام الله
مع اشتداد عنف القصف الجوي واتساعة جغرافياً لمختلف المناطق السورية بقيادة القوات الأميركية للتحالف الدولي ـ العربي، في الحرب على الارهاب المتمثل بالدولة الاسلامية في العراق والشام وتوابعها، سجل الدولار مكاسب للأسبوع الحادي عشر على التوالي (بدءاً من أول أغسطس/ آب حتى أواخر سبتمبر/ أيلول 2014) ، مقابل العملات الرئيسية، متابعاً بذلك أول موجة صعود له منذ التعويم الحر في العام 1971 في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، عندما أصبحت العملة الأمريكية بديلاً للذهب في الاحتياطي النقدي العالمي .
وحدث ذلك مع بروز القوة العسكرية للولايات المتحدة ونفوذها الكبير والواسع جغرافياً، ورغم ضعف اقتصادها الذي لا يزال يعاني من تداعيات الأزمة المالية في العام 2008، وهو مثقل بالديون التي تجاوزت قيمتها 17 تريليون دولار، حتى أصبحت الدولة المدينة الأكبر في العالم .
لا شك في أن النفوذ السياسي ينعكس على النقد، الذي تبرز قوته ارتفاعاً في مستوى المعيشة، ولوحظ أنه حتى بدء الحرب العالمية الأولى كانت بريطانيا الأقوى، وكان نقدها الأهم، ولكن "القوة السياسية" انتقلت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة، حيث أصبح الدولار هو النقد العالمي الأهم، وبعد الحرب العامية الثانية أصبحت "دولة اقتصاديه عظمى"، واستمرت كذلك لعدة سنوات إلى أن أصبحت دولة عادية، بسبب الديون والأخطاء وضعف النمو والانفلات السياسي والعسكري العالمي، وما رافقها من حروب واضطرابات أمنية، بدءاً من الصراع العربي ـ الاسرائيلي، مروراً بحروب فياتنام والبوسنة والهرسك وأفغانستان وإيران وليبيا واليمن، حتى الحرب على الارهاب الدائرة حالياً في سوريا والعراق .
وإذا كان المعروف عالمياً أن قوة النقد تنبع من قوة الاقتصاد، فان هذه المعادلة ليست صحيحة دائما، ومثال على ذلك أن اليورو ارتفع مقابل الدولار في السنوات الأخيرة من دون مبررات علمية أو واقعية، وكنتيجة للطلب عليه، مع العلم أن أوضاع الاقتصاد الأمريكي كانت وما زالت افضل نسبيا من الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني من أزمات مالية متعددة، حتى أن بعض دول تجاوزت ديونها نسبة 175% من ناتجها المحلي الاجمالي مثل اليونان ، و 130% ، و123% في ايرلندا ، و 93.5% في فرنسا، وكل هذه النسب تتجاوز "القاعدة الذهبية" التي حددها " ميثاق ماستريخت " بمعدل 60%.
احتياطي النقد العالمي
تراجعت قيمة الدولار خلال الـ 12 عاماً الماضيه (2002 – 2013) بنسبة 40% مقابل الفرنك السويسري ، و30% للين الياباني و25% لليورو الأوروبي، إضافة إلى العجز المالي الكبير، وتصاعد مستويات الدين العام إلى حدود التهديد بفقدان الثقة بالعملة الأمريكية، وكان البنك الاحتياطي الفيدرالي قد طبع مؤخراً كميات كبيرة من الدولار لتمويل العجز وترحيل الأزمة للسنوات المقبلة، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم .
وحيال هذه التطورات، توقع رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي دنيس لوكهارات صعوداً تدريجياً لعملات أخرى خلال السنوات المقبلة، مؤكداً "أنه لا بد من بديل عن الدولار كعملة احتياط عالميه في الوقت الراهن بالنسبة للدول المرتبطة به" .
هل يمكن تحقيق ذلك ؟.. وما هي العملة البديلة؟..
وفق احداث التقارير، بلغ اجمالي حصة الدولار في احتياطات صندوق النقد الدولي 3.763 تريليون دولار ، أي بنسبة 60.9% من إجمالي مخصصات الاحتياطات، في الفصل الأول من عام 2014، مقابل 24.4% حصة اليورو ، ونحو 3.9% للين الياباني، ويشكل الدولار حالياً نحو 86% من حجم التعامل اليومي في السوق العالمي للصرف الأجنبي والذي يزيد عن ثلاثة تريليونات دولار، أما احتياطات النقد العالمية فقد وصل حجمها إلى 11.864 تريليون دولار، ومعظمها بالعملة الاميركية .
وكنتيجة طبيعية للانتشار الكبير للدولار وسيطرته على الحركة المالية والاقتصادية في العالم، فان كل من يملك أموالاً أو ودائع أو صكوكاً بالعملة الأمريكية، من بنوك مركزية وتجارية ومواطنين، مضطر لحماية الدولار حماية لمصالحه، حتى الصين، والتي يرى بعض المراقبين أن "اليوان" يمكن أن يكون بديلاً عن الدولار، قد لا يكون لها مصلحة في ذلك، كونها تملك حالياً اكثر من 2.5 تريليون دولار من الاحتياطي النقدي الخارجي 70% منها سندات خزينه أميركية، مع العلم أن صندوق النقد الدولي قد أعلن عن اسعداده لاقرار "اليوان" الصيني كإحدى العملات الرئيسية المكونه لسلة عملات وحدة حقوق السحب الخاصة، شرط تحرير قيمته، وذلك اعترافاً منه بأهميته وقوة استقراره .
سلاح قاتل
لا شك في أن تسعير النفط بالدولار، هو قرار استراتيجي في إطار التحالف القائم بين الولايات المتحدة والدول المنتجة وخصوصاً دول الخليج، ويلاحظ أن عملات خمس دول منها مرتبطة بالدولار، وهي السعودية والإمارات وقطر وعمان والبحرين، أما الكويت فإن عملتها مرتبطة بسلة عملات اهمها العملة الاميركيه ، وهي ترى أن ربط عملاتها بالدولار يحمل ميزة كبيرة لأسباب عدة، أهمها أن العملة الأكثر أهمية في التجارة الدولية، حيث أن 80% منها يتم تسعيرها بالدولار، حتى أن بعض خبراء الاقتصاد الخليجيين يرون أن هذه الميزة تتمنى دول مثل الصين والهند والبرازيل الحصول عليها، لو استطاعت .
ومن الطبيعي أن يعكس ذلك قوة أميركا السياسية والعسكرية، ومن هنا وصف الخبراء الدولار بأنه "سلاح أميركي قاتل "يمكن استخدامه في الحروب الاقتصادية، وقوة ضغط في المعارك العسكرية، وقد سبق للرئيس الراحل صدام حسين أن أوقف التعامل بالدولار في العام 2000 ، والاتجاه إلى اليورو ، لكن الثمن كان كبيراً عندما خاضت الولايات المتحدة حرباً في العراق أطاحت بنظامه وأعادته إلى حظيرة الدولار .
ويتحدث البعض عن اتفاق قد يتم بين الصين وروسيا في اطار التحالفات الدولية المرتقبة، يقضي بالتخلي عن استخدام الدولار في تبادلاتهما التجارية، مما يؤدي إلى خروج 17 تريليون دولار من دائرة تداول العملة الأميركية، وتزداد خسارة الولايات المتحدة في حال انضم إلى هذين البلدين مجموعة دول البريكس ، لتعزيز قوتها ككتلة اقتصاديه كبرى .
ولكن يبدو أن مثل هذه التحالفات لا يمكن أن تقوم إلا في إطار صراع دولي وحروب اقتصادية وحتى عسكرية، قد يرى البعض يمكن الاستغناء عنها وفق تطور المصالح بين مختلف المتحالفين.
"دكتاتور" العالم
لم تتوانى الولايات المتحدة عن استخدام قوتها السياسية وحتى العسكرية، فضلاً عن قوة الدولار في سيطرتها على العالم، واصدرارها احكاماً " دكتاتوريه" بفرض عقوبات وغرامات مالية بمليارات الدولارات بحق مصارف فرنسية وأوروبية، وهي أقرب إلى عملية ابتزاز صاخبة منها إلى العدالة، مع العلم أن التهم الموجهة إلى هذه المصارف لا تتعلق بخرق قوانين فرنسية أوروبية أو معاهدات أوروبية – أميركية، أو أي التزامات مع منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة، إنما يتعلق بانتهاك مجموعة من القوانين الآحادية الأميركية، لم يؤكدها أو يوافق عليها الاتحاد الأوروبي أو فرنسا، وكل ذلك جاء نتيجة الدور المحوري الذي يلعبه الدولار اليوم في الاقتصاد "المعولم"، وهذا يعني أنه يمكن للأميركيين والجهات الرقابيه المحليه مواصلة برامجهم عن دوافع ذاتيه ولا يمكن سؤالهم ، كون الدولار مسيطرا ويستخدم كسلاح أميركي قاتل في مقاضاة ما يرونه مناسباً لمصالحهم وأحكامهم وتقديرهم للأمور.
وفي هذا المجال ايضا، تبرز قوة أميركا السياسية والعسكرية، وكذلك قوة انتشار الدولار المعولم، من خلال تطبيق النظام الضرائبي المعروف بـ "FATCA " والذي بدأ تنفيذه في أول تموز (يوليو) 2014 ، وهدفه تحصيل الايرادات الضرائبية التي تحتاج إليه الموازنات الأمريكية العاجزة. ويمكن وصف هذا القانون بالقاسي والصعب وغير العادل وغير المنطقي الذي يؤذي الأمريكيين أنفسهم. وهو يفرض على كل المصارف والصناديق والمؤسسات المالية عبر العالم إبلاغ جهاز الضرائب الأمريكي IRS عن أي حسابات أو أصول لمواطنين أمريكيين أو حتى للمقيمين كما للذين تربطهم علاقات اقتصادية قوية بأمريكا. وهنالك عقوبات مالية وجزائية قاسية للذين لا يمتثلون للقانون، أهمها المقاطعة القاتلة في الظروف المالية الدولية، وإضافة إلى سلبية التنازل عن جوازات السفر الأميركية، هناك سلبية تكمن في أن العديد من الشركات العالمية بدأ يتجنب توظيف أمريكيين تهربا من المعاملات والإجراءات القاسية التي يفرضها القانون عليهم وعلى المؤسسات التي توظفهم. كما تتجنب المؤسسات والشركات التعامل مع أمريكيين كي لا تقع في فخ القوانين الضرائبية الجائرة. ومن المساوئ الإضافية أن القانون يلغي الخصوصية المالية التي بشر بها الأمريكيون منذ عقود وهي إحدى ركائز النظام الاقتصادي الحر، والغريب أن أمريكا ترفض إعطاء الدول الأجنبية معلومات بشأن مواطنيها في أمريكا وهي تطلبها منها بشأن الأمريكيين فيها.
ولذلك المطلوب تطبيق سياسة المعاملة بالمثل، أي لا يمكن لأمريكا أن تطلب من دول أخرى حتى الغربية منها ما ترفض هي إعطاءها لها. وأهمية هذا الواقع هو أنه يشير إلى ضعف الاقتصاد الأمريكي وبالتالي اضطرار الدولة إلى وضع وتنفيذ قوانين غير منطقية، ومن هنا يمكن القول أن الدولار لا يتمتع اليوم بالقوة الطبيعية كنقد لدولة عظمى بسبب القرارات والسياسات المتبعة التي تضر أحيانا بأميركا نفسها، وهي تبقى قوية، لكنها تخسر الكثير من نفوذها بسبب الديون والقوانين وعدم التعامل بعدل ومنطق مع الغير بمن فيهم حلفائها.
(المصدر: وكالات)