تقوم القصيدة على طبيعة تدفعها دائما إلى التجدّد، وإلى البحث عن آفاقٍ أخرى وعن احتمالاتٍ مختلفة لتأثيث القول الشعريّ وتحديث بنائه. ويستدعي بروز هذه الطبيعة فيها أنْ يرافقها، دائما، نوعان من النقد مختلفان متعارضان:
-الأوّلُ يسعى إلى كبح رغبة القصيدة في التجدد وإلى إخضاعها للقوانين والقواعد المستنبطة من نصوص سابقة لها، كما كان حال الشعراء المحدثين في العصر العباسي مع ناقد مثل المرزوقي.
-النوع الثاني من النقد تقدميّ يؤمنُ بأنَّ القصيدة تتجدَّد وتنتفض على القواعد المستنبطة من نصوص غابرة، ومن ثمة يسرع إلى التنظير لها وإلى التأسيس لشعريتها. وقد وُجِدَ مثل هذا الناقد قديما ممثلا في شخص من دافعَ عن أبي تمام ونقصد هنا الصولي.
ثم بعد أنْ تستقرَّ الشعرية الجديدة وتستفحل لا يلبثُ هو الآخر-أيْ النوع الثاني من النقد-أنْ يتحوَّل صاحبُه إلى مرزوقيٍّ جديدٍ يكبح كل محاولة للتجديد تخرج عن تصوِّره للشعر. وهذا ما حدث تماما مع نازك الملائكة-في العصر الحديث-على سبيل المثال- حين أوشكتْ على وضع عمود شعر معاصر لفيوضاتِ تجربة ثائرة يحدُّ من تطوّرها. وحين لم يمتثل لها الشعراء توقعتْ أنْ تصل هذه التجربة إلى نقطة الجزر!!!!
غير أنَّ القصيدة، أيَّة قصيدة حقيقية، تبقى مستمرة في البحث عن الجديد، تائقة إلى الكشف عن جغرافيا كتابةٍ تحفل بالمعاني المبتكرة والأساليب المغايرة. وهي تستمدُّ طاقتها على التجدُّدِ من داخلها باعتبارها بواطنَ للمعرفة، ومن رؤيتها إلى العالم وأشيائه ومن ثقافة صاحبها بالطبع. من هنا، يتوضَّح-على حدّ تعبير ميشال كارّوج-"أنَّ كلمة شعر لا تشير إلى صناعة عادية إلا بالنسبة إلى أولئك الذين يقلِّصونها في صياغة لفظية. الشعر بالنسبة إلى الذين حافظوا على معنى السّرِّ الشعريّ، هو عمل مقدَّس يتخطى سلّم العمل الإنسانيّ العاديّ. إنه يحاول أنْ يتَّحد بسرِّ الخلق الأصليّ"( أدونيس. الصوفية والسوريالية. دار الساقي، بيروت، الطبعة الثالثة؛؟. ص:278.)وذلك بجعل اللغة بدءًا لا تكرارا، وعن طريق تجاوز الأشكال النمطية إلى أخرى مبتكرة تتسم بالخلق والتفرُّد.
إنَّ أهمَّ نقطة تحوُّلٍ حقيقية في مفهوم الشعر كانتْ بتأسُّس وعيٍ جديد يرى بأنَّ الكلام الشعريَّ غير الكلام العاديِّ ونقيض له. ذاكَ أنَّ ما يجعله بهذه الصفة هو الرؤية العُمْقية التي ينظر بها الشاعر إلى الأشياء وإلى العالم. فهي رؤية تترفع عن أنْ تكون مجرد وصف تسجيليٍّ أو تأريخيٍّ لأحداث العالم، بل تقترحُ نفسها كمحاولة جادَّة لإعادة خلق العالم داخل كينونة لغوية. لهذا يسعى الشعراء الحقيقيون دائما إلى تجاوز التعتيم الذي تفرضه المادية على البشر، ويرومون إبقاءَ "الإنسان منفتحا، فيما وراء الظاهر التقنويّ العقلانيّ، على الغيب-الباطن، على المجهول اللانهائي-دائما على عتبة ما يأتي في تلك النقطة الزمنية-اللازمنية،"(أدونيس. الشعرية العربية. دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية؛ 1989. ص:107.)التي تنعدمُ فيها الفوارق ويمكن في ظلِّها أنْ يتعايش كونٌ من العناصر المتنافرة معا وفي تماهٍ تامٍّ فيما بينها.
تبرز أهمية المفارقة في الشعر عموما، وفي شعرنا العربي المعاصر، من حيث أنها من أهمِّ خصائصه، وتعتبر طبيعة فيه وجوهرا أصيلا يحدِّد ماهيته. وهي كذلك حين تتخفَّى في الشعر تتبدَّى على لبوسات شتى، وتحقق كينونتها داخل ظواهر شعرية عديدة كالحضور والغياب، التضادِّ واللاتجانس، الترميز، الغموض، الأسطرة، وغيرها من الظواهر الشعرية. وبهذا تدفع الشعر إلى تحقيق المغايرة المرجوَّة وإلى الظفر بطاقات تعبيرية جديدة يحيي بها موات اللغة. فشعرية المفارقة "تتشكَّل من خلال تكشُّف قدرة الشاعر عن طاقة تعبير شعرية تكتنز بروح خصبة وثرية قائمة على التركيز والدقَّة والمفاجأة في آن"(عبيد، محمد صابر. العلامة الشعرية، قراءات في تقانات القصيدة الجديدة. عالم الكتب الحديث، أربد-الأردن. ط؟؛ 2010. ص:179.)، حيث تنصهرُ جميع العناصر المؤتلفة والمختلفة، المتجانسة والمتنافرة، الظاهرة والخفية، ضمنَ بوتقة واحدة وبنية لغوية متماسكة-على رغم تنافر محتواها-توحدها النصيَّةُ وتُحكِم لحْمَ الفجوات الناشئة عن تنافراتها في إطار علائقية النص الشعريِّ وبنيويَّته. بعد هذا لا ريب أنْ يكون وجودُ المفارقة ضروريا في الشعر بسببٍ من طبيعته كما أوضحنا، فالشعر ذاته يعتبر مفارقة صارخة حين ينطلق من الكائن ليعبّر عن الممكن، أو حين يتكئ على المعلوم والمألوف ليصل إلى المجهول والغرائبيِّ، وحين يبتدئ من البديهي والبسيط لينتهي إلى الأسئلة التي تخلخل قناعات البشرية وتؤجج قلقها الوجوديَّ في مواضيع الحياة والموت، البدء والمنتهى، اللقاء والفراق وغيرها. وتتحقق المفارقة في هذه الحالات فقط حين يمسك الشاعر بالنقطة التي تجمع بين كل هذه المتناقضات.