أن تتيه والشمس في كبد السماء مثلما يقولون أهونُ، وأن تتيه فردا فهو هيّن مهما تُكابد من صعاب، غير أن الـمشكلة كل الـمشكلة أن تتيه مجموعةٌ من البشر كبيرة تُجاوِز الثلاثمئة مليون نسمة، ولا أقول "أمة" فلهذه الكلمة قداستها التي أهانها أفراد المجموعة التي أتكلم عنها.
فأن تتيه مجموعة كبيرة كالتي أتكلم عنها والتي تضم عرقيات كثيرة من عرب وغيرهم بينهم روابط لغة ودين سماوي (رغم اختلاف مظهره) بل ويكاد يربط بينهم دم واحد لامتزاجه عبر آلاف السنين تصاهرا ونضالا ضد عدو مشترك يَقْدُم إليهم دائما من جهة الغرب وما وراء البحر، بل ولامتزاجه حتى عبر نقل الدم من شخص إلى آخر حين إسعافه في كارثة أو حرب.
أن تتيه هذه المجموعة البشرية التي تتمنطق من المحيط الأطلسي غربا إلى الخليج (ولا أريد هنا ذكر إحدى تسميات هذا الخليج دفعا لإثارة مشاكل ونحن نسعى لإخمادها)، وتفقد بوصلتها فلا تعود تُـمَيّز الأخ والصديق والعدو، وتضيع دروبها بل وتمّحي، بل ويعمل أفرادها على محو كل جميل من تاريخها ومن حاضرها، ويضعون الـمتاريس تلو الـمتاريس أمام الغد، صرنا هنا لا نسأل عن الغد، أمشرقٌ هو أم غير ذلك؟، بل صار كل أملنا في غد مهما كان لونه.
بعدما قلنا إننا تجاوزنا مرحلة تحرير الأرض، وفرحنا زمنا يسيرا بشهدائنا وانتصاراتنا، ودَحْرِنا للعدو الواحد، وطرده من الأرض (رغم بقاء أعز جزء من خارطتنا تحت الاحتلال)، بل وقتها لم نكن نسأل عن انتماء هذا ولا عرق ذاك من مجموعتنا، ولم نكن نسأل عن سياسة هذا الحاكم ولا ذاك، ولم نكن نبحث في الـمذهبيات ولا نعرف عن الكليات أو الجزئيات شيئا، كنا في لحظة فرح غامر بوطن يبزغ من جديد.
أما وزمن العتمة يَهِلّ علينا في بضع السنين الأخيرة، ضربنا في الصفر كل ما فات، ولم نعد نرى بالألوان ولا بالأبيض والأسود، وصرنا نستمع لبعضنا (هذا إذا استمعنا) لا بُغْيةَ الإفادة، بل بُغْيةَ التشكيك في بعضنا والرد على بعضنا وتسفيه بعضنا، صرنا نبحث عن كل ما يفرقنا، وصرنا نتلذذ بعذاب بعضنا، حتى وصل بنا الأمر إلى استقواء كل فصيل بالعدو، صارت النجدة في يد ذاك الذي حطم لنا كل أمل سواء في الماضي البعيد أو القريب أو الآن، العدو الذي لا ينام حتى ينصب لنا فخا نقع فيه، العجيب في الأمر أننا أعفينا هذا العدو من وضع الفخاخ وصرنا بدلا عنه نتفنن في نصبها لنا.
في بضع السنين الأخيرة دخلت مجموعتنا البشرية زمن العتمة، ولأننا من قبْلُ لنا نية الاستدمار (الذاتي)، اعتنقنا عقيدة "التيه"، والتي ليست بجديدة على المجتمعات البشرية، لا أشك في مقدراتنا على الخروج من دائرة التيه هذه، بل أشك في مقدرتنا على محاربتنا الاستغباء الذي ضرب بأطنابه حول صغيرنا قبل كبيرنا، بل زرع بيننا من التفاوتات ما لو تجتمع حوله البشرية لاقتلاعه ما استطاعت، لا لسبب إلا لأننا نحن نعمل على إنـمائه بشتى المناهج والوسائل، استغباء يجعل من العدو قريبا ويجعل من بعضنا كواسر على بعضنا.
لا يبدو لزمن العتمة من نهاية على الـمدى القريب أو المتوسط، كما لا يبدو أننا نسعى إلى وقف آليات التيه، ربما يكون لزاما على مجموعتنا البشرية أن تتآكل بينيّا فتفقد ثلثها أو نصفها وعندها وربما أخرى يَبِين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود.