أبعدت نفسي عن التفكير في الموضوع لحد سنة رابعة، لمّا صار لازم نعمل بحث لمشروع التخرج. الدكتور أصرّ نكتب إهداء باعتباره جزء من البحث، صحيح تغلبت في البحث العلمي سيّما أنه عمرنا ما تعلمنا البحث العلمي، ولا بنعرف شو البحث العلمي. بس أنا تغلّبت في الإهداء أكثر من البحث نفسه.
حاولت أعصر كل قواي النفسية والعقلية والعاطفية والإنسانية، علشان ألاقي حدا أهديه ثمرة جهدي، بس ما لقيت، وطبعا هذا مش لأني ناكرة للجميل، أو لأنه مش عاجبني حدا، أو لأنه جهدي جبار أو لأني أحسن حدا بعمل بحث علمي. أبداً؛ بس لأني وأنا بدّور في ذاكرتي عن حدا يستاهل ما لقيت.
أول ما خطر ببالي أمي..
تذكرت أمّي "منى" وتذكرت قديش هي تعبت وضحت وقدّمت، وقديش هي بتحب أولادها وبيتها، وقديش دفعت من روحها وقلبها وجسدها حتى تحافظ على اسرتها، وقديش بذلت جهد علشان تجيب ولد وما زبطت معها. بس مسكينه ما كان طالع في ايدها إشي، لأنه جوزها أبوي سليمان ناصر "أبو محمد" -أبو محمد هو الإسم اللّي "باي دفولت" بنادي الناس فيه الزلمة بس ما يكون عنده أولاد- كان عامل حاله الله في البيت، لسّا الله ما بدّخل في كل تفاصيل حياة عباده، يعني إذا حدا ما صّلى الصبح حاضر، أو إذا صلى وهو مش متأكد أنه وضوؤه فسد ولا لأ، ما بتلقى تهديد من الله أو بتلقّى مسبه أو ما بشوف إلاّ والكف على رقبته أو على وجه، بس أبوي كان عامل حاله الآمر الناهي الحاكم المستبد المتحكم في كل صغيرة وكبيرة في الدار، وكل اللّي كانت أمّي تبنيه كان أبوي يهده برمشة عين.
رغم تعاطفي معها، ورغم محاولاتها وجهدها، أنا مش قادر اكتبلها الإهداء.
الحالة اللّي أنا وخواتي الخمسة فيها، ما كنت واعيلها لحد ما دخلت الجامعة، قبل هيك كنت بفكر إنّه الحياة لازم تكون هيك، والآباء كلهم هيك والأمهات كمان لازم يكونو هيك، لأنهم ببساطه ضعاف أمام الرجال.
إذا بدّي أوصف أبوي ما بلاقي غير عصبية دائمة، مسبات وتكشيرة ولحية طويلة غير مهذبة، وصلعة معبيّة وجهه، وهاي الملامح كانت هي نفسها ملامح الخوف والرعب، حتى أني بَطلت أميّز بين الخوف والحب وصاروا بالنسبة إلى زي أصابع تويكس، صعب تميّز بينهم.
أعمامي وأخوالي ولا كأنهم هون، ببساطة لأنهم كانوا يتقّو شره، وحدها ستّي "أم سليمان" اللّي كانت في كلّ مرّه تهدي عليه.
_ بيصرش هيك يمّا"
_"اللّي بتعمله ما حدا بتحملّه"
_بناتك بيخافوا منك كثير"
_"بكرة بتعقدوا من الحياة"
وهو كان يعتبر كلامها شهادة على حسن تربيته، وانّه صاين هالبنات اللّي رايحين يدخلوه الجنة.
نسيت احكيلكم، إحنا ست بنات وما في بينا ولا ولد ذكر، وهذا الموضوع كان عامل لأبوي أزمة نفسية وفلسفية ووجودية كبيرة. وبتذكر لمّا ولدت أمي آخر مرّة وكان المولود بنت، سّماها كفاية، وحلف ميت يمين وألف طلاق أنه عمرة ما بعيدها، رغم أنه ما كان يخلّي صلاة صبح ولا عشاء ولا تراويح إلا يدعي الله يعطيه قطمة ولد علشان يحمل اسمه، كأنه احنا السته مش موجودات.
طبعاً امّي في كل مرّة كانت تجيب البنت كان ينكسر فيها إشي، لحد ما صارت عبده تطيع وكأنها السبب في ذلك.
العلم الحديث اللّي أبوي ما بتعَرّف عليه بيقول انّه الزلمه هو المسؤول عن تحديد نوع المولود ذكر أو أنثى، بس أبوي لليوم ولبكرة ولحد ما تقوم الساعة محّمل امّي مسؤولية إنها بس بتجيب بنات. وأكثر من مرّة كان يحكي بدون خجل، لو انّه وضعة المادي بيسمح كان جرّب حظه مع وحده ثانية تجيبله الولد اللّي نفسه فيه.
كنت أنا وخواتي عايشين بالهجو كأنه قضاء مرسوم لا يمكن تغيره أو مناقشته حتى دخلت الجامعة، طبعاً بعد جهد جهيد وبعد واسطات ستي أم سليمان واخوالي واعمامي وبعد ما ادّخل جارنا أبو حازم اللّي بشتغل في اللّوازم والمشتريات في الجامعة، وحده افلح في إقناع أبوي وقال له:
مش كل بنات الجامعة مثل بعض، في هيك وفي هيك، وانه بنته "وعد" درست 4 سنوات في الجامعة وثمها ما خاطب ولا شنب، طبعا بيقصد من زملائها الشباب.
المهم دخلت الجامعة وكنت طول الوقت حاسه إني أقل من الجميع، والحصانه اللّي كنت حاسسها بالبيت طارت في الجامعة لأنها كذبة كبيرة، كنت حاسه إني مراقبة من أبوي في كل خطوة بخطوها، كنت أشوفه بطلّع عليّ من ورا بوابة الجامعة، أتخيله واقف على الدرج، في القاعة، في الساحة الكبيرة، أشوفه ورا رفوف الكتب في المكتبه، ماشي معي أنا وصاحباتي اللّي تعرفت عليهم جديد، كان يكون راكب معي في الباص أو سيارة العمومي خط راس العين. كان الموضوع يعمل أرق وضغط نفسي كبير، وما في حدا يقول كلمة إطِّيب الخاطر، كل هذا كان يظهر في سلوكي على أشكال كثيرة، انطواء خجل كآبة دائمة وأحيانا كره للحياة وللجامعة ولنفسي.
طبعا صاحباتي وخصوصاً نادية كانت فاهمة الموضوع وتحاول التخفيف عنّي، بس كان تطوري ضعيف واستجابتي بطيئة، كنت بحاجة لقوة كبيرة علشان تغيرني. لحدّ ما تعرفت على إنصاف، كنا نحكي عن همومنا بصراحة، نسِب مرّات، نضحك مرّات، نبكي مرات، نحكي كلام مش ولا بدّ، بس ما في شيء تغير، إنصاف كانت تقريباً مثلي بس اللّي كان كاسر خاطرها مش أبوها، كان أخوها الكبير عامّلها بعبع في الدار، ومش عارف حدا يضعله حد، يوم من الأيام أجت إنصاف على الجامعة بدون حجاب، والكل كان مستغرب عليها، بس كمان الجميع لاحظ إنها بعد ما تركت الحجاب تغيرت كثير، زادت ثقتها بنفسها، وصارت الإبتسامة الناعمة ما تفارق وجهها، ومش بس هيك؛ صارت أشطر من أول، وما تغيب عن المحاضرات، وتمزح وتضحك وما يهمها شيء، نسألها شو اللّي صار معك يا إنصاف؟
تهز رأسها وتقول:
_اللّي كان بده إياني أتحجب سافر، ما بتحجب حتى اقتنع.
طبعاً في دكاتره سبّوا عليها في سرّهم، وفي منهم أثنوا على شجاعتها بينهم وبينها، في طلاب قارنوا في خيالهم كيف كانت وكيف صارت هيك أحلى، وفي بنات حسدوها على شجاعتهم، وبنات لاموها على وقاحتها، بالنسبة إلي لأول مرة في شيء تغير فيّه، بس أكيد ما وصل تفكيري لخلع الحجاب لأنه مثل هيك موضوع بدّه دورة مدتّها 18 سنة علشان أعرف أعمل هيك خطوة، وكمان أنا مش كثير متحمسه لخلع الحجاب لأنه الموضوع مش في الحجاب وعدمه، الموضوع في المخ اللّي تحت الحجاب، وفي العادات والمعتقدات الإجتماعية اللّي بتحاصر الإنسان وبتمنعه من التنفس والتفكير والعيش بحرية. كمان ورا الحجاب في ضربة أكلتها من أبوي وأنا في الصف الثاني، بعدها انفتح راسي من الجهة اليمنى لجبيني وبقيت آثارها واضحة، أبوي اللّي مارس كل رجولته وفتونته وعصبيته على جسد طفلة كان عمرها تسع سنوات.
بصراحة نظرتي بلّشت تتغيّر، من جهة أبوي أولاً وأمي ثانياً، وحتى لأعمامي وعماتي وخالاتي واخوالي اللّي ولا واحد فيهم حاول يحكي كلمة حق للزلمة اللّي كان ازمته تزيد كل ما زاد عدد بناته وما كان من بينهم ولد يحمل اسمه، كلهم صاروا مذنبين معه. وحدها ستي أم سليمان اللّي بقيت صورتها تكبر في نظري لإنها حتى آخر لحظة وهي تحكي معه وهو أذن من طين وأذن من عجين.
تاخذنا بحضنها ومرات تهمس كلام ناعم يدفي قلوبنا البردانه بس ما نفهمه.
كيف تغيرت؟
أولاً تغيّرت قناعتي أنه مش كل الآباء مثل أبوي، وأنه في آباء علاقتهم مع أبنائهم وزوجاتهم أحسن من اللّي شفناه من أبوي، كمان بلّشت أفكر في التشدد اللّي عايش فيه أبوي واللّي معيشنا فيه، وأنه هذا التشدد من صنع إيده هو، لأنه الدين خالي من التشدد "يسر مش عسر" مثل ما كانت تقول ستي أم سليمان. خصوصاً بعد دراستي لمساق "نظام الأسرة في الإسلام" مع الدكتور نظام، والدكتور الله يمسيه بالخير فاهم الدين أحسن من أبوي بألف مرّة، وافهمت أنه الحياة والدين والآخرة أوسع وأكبر من أن يسعها عقل واحد زي أبوي، وبعدين وين العلم في الدين والحياة والآخرة اللّي بعرفهم أبوي، غير شوية كلام خارج عن سياقه بسمعهم من صاحبه أبو البراء اللّي عبّى عقله وقلبه حقد وغل وكره على الناس، وخاصة على النسوان، عنده النسوان أصل الفساد على الأرض، وهنّ السبب اللّي انطرد أدم من الجنة، والنسوان ناقصات عقل ودين، يعني الدكتور نعمان بحطّه وبحطّ ميّه زيه بجيبته الصغيرة في العلم الشرعي وفقه الدين.
بحكي مع حالي بقول يا بنت اللّي راح راح، المشكلة في اللّي جاي، بكره بتخرّج وبقعد بالدار استنى العريس اللّي بوافق مقاس أبوي، بدعو الله إنّه ما يكون زي أبوي علشان ما أصير أنا مثل أمّي.
بقول لحالي هذا من وين بدّه يحصل، طبعا ما دام التعارف والعلاقات الإجتماعية والعاطفية ممنوعة على وحده مثلي، وبدّي دورة مدتها 30 سنة علشان أعمل علاقة عاطفية، حيكون النصيب يا إبن عّمي يا ابن عمتي، يا بن خالي يا واحد من معارف أبوي.
المشكلة إني كرهت كل اللّي شافتهم عيني وعرفتهم في الفترة السابقة وصعب أقبل حدا فيهم شريك لحياتي، لأني خايفة يكون بينه وبين أبوي صفات وراثية.
ولحدّ ما عريس الغفلة ييجي واشوفه، ولحدّ ما يكون شخص مختلف وبستاهل، ولحدّ ما اتأكد انّه مختلف وبستاهل، حيكون الخوف رفيقي وصاحبي وسلوتي.
الإهداء
أهدي هذا البحث إلى
أبي الذي أشفق عليه وأرجو أن يتغير
إلى أمّي التي تستحق المحبة..
إلى جدّتي الحنونه الحكيمه أم سليمان.
الإهداء الحقيقي إلى الدكتور نعمان الذي عرفت على يديه أن الأسرة محبة وليست خوف و رقابة.
وأن الله رحمة والدنيا مسرة، والدين يسر وليس عسر والآخرة شفاعة..
وأن سنوات المعناة السابقة على كثرتها لا تستحق ندمي لأن القادم منها أكثر وأجمل بإذن الله.
إرساء.