لقد أنْهينا الجزء الثالث بالإشارة الى - الحرب الكوريَّة - والى الحرب في - فيتنام - مطلع الخمسينيات من القرن المُنْصَرِم؛ وقد كانتا تحت عنوان ( الدِّفاع عن المجال الحيوي الإستراتيجي لكلٍّ من الولايات المتحدة وفرنسا تحديداً؛ كما لمجمل حلف النَّاتو؛ فقد امتدَّ هذا المجال ليشمل محيط بحر الصين والأرخبيل الياباني والهند الصينيّة ). وكانت هذه أحد البِدَع الأمريكيَّة التي واكبت التوسيع المستمر والمتنامي لمفهوم الحلف؛ حتَّى شَمِلَ
عمليَّاً تركيا في مرحلة الستينات من القرن العشرين؛ كما امتد لِيُلحق اليابان ضمن منظومته الأمنيَّة؛ وليشمل كذلك كثيراً من دول المنظومة الإشتراكيَّة بعد انهيارها وتفكُّكها نهاية الثَّمانينيَّات؛ مع العلم أنَّ مبررات توسيعه كان يعوزها المنطق بعدما انتهى حلف وارسو في المقابل !!.
لكننا يجبُ أنْ لا نستغرب من ذلك عندما نعلم أنَّ بناءَ حلف النّاَتو أصلاً، وتوسيع مجاله الحيوي باستمرار كان أحد روافع امتداد أذرُع إخطبوط الهيمنة الإمريكيَّة على العالم عسكرياً واقتصاديَّاً؛ وصولاً الى محاولة تكريس مفاهيم العولمة الأمريكيَّة التي كانت ترمي الى إلحاق العالم برمَّتِه ثقافياً واقتصاديَّاً وحتَّى فنيَّاً وحضاريَّاً بالإمبراطوريَّة الأمريكيَّة؛ وإلحاقُ مساحاتٍ واسعة ضمن منظومة الأمن والدِّفاع الإستراتيجي الأمريكي عبر منظومة حلف شمال الأطلسي تارةً كما جرى ويجري الآن في شرق أوروبا؛ وعبر الإتفاقات الثنائية والإقليميَّة تارةً أخرى؛ كما جرى في منطقة الخليج العربي؛ وبعض مناطق أمريكا الَّلاتينيَّة سابقاً.
وبعيداً عن الإستطراد في السِّياق التَّاريخي للكيْفِيَّة التي أفضت إليها نتائج الحرب العالميَّة الثَّانية المنتهية عام 1945م - فاتحةً لعصرِ الحرب الباردة - ؛ إلَّا أنَّنا نُشير هنا الى أبرز تنائج تلك الحرب على المشهد الجيوسياسي في أوروبا وفي العالم وعلى وجه الخصوص في جنوبِ شرق آسيا؛ قبل أنْ يستقر مشهد الحرب الباردة على النَّحو الذي رأيناه بعد تلك المرحلة؛ من سباقٍ للتسلُّح الإستراتيجي ولعقودٍ من الزَّمن؛ ومن الحرب السِّريَّة على مستوى التجسس والمعلومات والتِّقنيَّات والإختراقات التكنولوجيَّة؛ الى أنْ انتهى عصرها بحلول نهاية العقد الثامن من القرن الماضي.
فلإنْ كان تقاسم مناطق النُّفوذ بين القوى المنتصرة في الحرب - وتحديداً في أوروبا - قد تمَّ تسويتها عبر مؤتمر ( يالطا ) أو ( إتِّفاقيَّة يالطا ) وهي الاتفاقية التي تمَّ توقيعها؛ في مدينة ( يالطا ) الرُّوسيَّة، على سواحل البحر الأسود ما بين 4 الى 11 فبراير - تشرين ثاني – عام 1945م؛ بين الإتِّحاد السوفييتي بزعامة ( ستالين ) وبين كلٍّ من الولايات المتَّحدة بزعامة الرئيس الأمريكي ( روزفلت ) وبريطانيا بزعامة ( تشيرتشل ) - مع مشاركة رمزيَّة لفرنسا – حيثُ إضّطَلَع المؤتمر؛ وبشكلٍ أساسي؛ بمناقشة مستقبل ( ألمانيا ) وكيفيَّة تقسيمها، هل بين أربع قوى دوليَّة كما رغبت بريطانيا والولايات المتحدة ؟ أي بزيادة فرنسا كقوَّةٍ رابعة. أم إلى ثلاثٍ كما رغب الإتحاد السوفييتي ؟ وهل ينسحب هذا الأمر على تقسيم ( برلين ) بنفس الطريقة التي يجري بها تقسيم ألمانيا. إلَّا أنَّه تمَّ الإتفاق في نهاية الأمر على تقسيم ألمانيا وكذلك برلين الى شطرين غربي وشرقي؛ وكان بناء ( جدار برلين ) هو أحد أهم العلامات البارزة التي خلَّفها إتِّفاق ( يالطا ) كرمزٍ لانقسام أوروبا الى شطرين يتوزَّعان بين المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وبين المعسكر الإشتراكي بقيادة الإتِّحاد السوفييتي؛ ليُكتَبَ بذلك بداية أولى الفصول الإفتتاحيَّة للحرب الباردة بين المعسكرين. التي ابتدأت بحروبٍ ساخنة في الهند الصينيَّة؛ في كلٍّ من كوريا وفيتنام. وقد كانت تلك أولى المحاولات الأمريكية لمحاصرة الصين ومنعها من التَّقدم لحجزِ مقعدٍ لها في صفوف القوى الدَّوليَّة.
إذْ أنَّ اتِّفاقيّة ( يالطا ) لم تحدد مستقبل مناطق النُّفوذ في شبه الجزيرة الكوريَّة وفي مجمل الهند الصينيَّة وفي محيط بحر الصِّين. وهذا ما مثَّلَ مدخلاً لاوَّل فصول الحروب والمواجهات الدولية، غير المباشرة، فيما بين المعسكرين الإشتراكي بزعامة الإتحاد السوفييتي وعضويَّة الصين وبالتَّحالفِ معها؛ وما بين المعسكر الرأسمالي وطليعته الولايات المتحدة الأمريكيَّة.
وكتحصيلِ حاصلٍ لنتائج الحرب العالميَّة الثانيَّة في أوروبا؛ فقد تولَّت الولايات المتَّحدة فرض الحماية على كلٍّ من ألمانيا الغربيَّة وإيطاليا؛ وحظرت عليها ووفق صيغٍ قانونيّة؛ تم الإتفاق عليها مع حلفائها الغربيين؛ بناءَ صناعاتٍ حربيَّة أو تأسيس جيوش ذات طابع هجومي أو إستراتيجي؛ وكتحصيلٍ لنتائج الحرب مع اليابان؛ فقد فُرِضَت عليها نفس الشروط التي فرضتها على كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا.
وإذْ ذاكْ فقد تولَّت ( أمريكا ) فرض الحماية والهيمنة على كلٍّ من اليابان وكوريا وسنغافورة؛ إضافة الى ألمانيا وإيطاليا داخل أوروبا؛ والعديد من البلدان على خريطة العالم خصوصاً منطقة الخليج العربي وإيران، وذلك عبر تدشين القواعد العسكريَّة فيها؛ والَّتي تضم آلاف الجنود الأمريكيين؛ كصيغةٍ جديدة من صيغ الهيمنة والإستعمار - التي لاقت قبولاً لدى تلك البلدان- بحجَّةِ ضرورة حمايتها المباشرة من الإتِّحاد السوفييتي.
فكان هذا أولُ العناوين لبداية وإدامةِ الهيمنة الأمريكيّة على نصف العالم. قبل أنْ يظهرَ عنوان - مواجهة عدوى الشُّيوعيَّة – على ساحة أوروبا الغربيَّة وأمريكا الَّلاتينيَّة وشمال وجنوب القارَّ الإفريقيَّة والشَّرق الأوسط والشِّرق الأدنى.
كانت البداية لاستخدامِ هذا العنوان - مواجهة عدوى الشيوعيَّة - في أوروبا مع إطلاق مشورع ( مارشال ) عام 1947م؛ ففي خطابٍ للجنرال ( جورج مارشال ) - رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية؛ ووزير خارجيتها بعد انتهاء الحرب - ( أمامَ جامعة هارفرد ) بتاريخ 5 يونيو / حزيران من عام 1947م؛ أعلِنَ عن مشروعٍ إقتصاديٍ هائل لإعادة إعمارأوروبا بمساهمةٍ من جانب الولايات المتحدة بحوالي 13 مليار دولار في دعمِ صندوق ما سُمِّيَ وقتها ( بمنظمة التعاون والإقتصاد الأوروبي ).
أدَّت الحرب العالمية الثانية الى دمارٍ كبير في بنية الإقتصاد الأوروبي؛ والى تعثُّر عجلة الصناعة؛ والى مقدارٍ عميق من الكساد الإقتصادي؛ مِمَّا عمَّق من انتشار حالة من البؤس والفقر في عمومِ أوروبا وخصوصاً في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا؛ ومِمَّا وفَّرَ فرصةً أمام الدِّعاية الأمريكيَّة لاستخدامِ واستثمار فزَّاعة التحذير من خطر انتشار الشيوعيَّة في تلك البدان على وجه التحديد؛ ومِمَّا وفَّرَ فرصةً ذهبيَّة وتاريخيَّة وامتيازيَّة من الدرجة الأولى، أمام الإقتصاد الأمريكي للإستثمارِ في أوروبا تحت عنوان إعادة الإعمار؛ وإعادة تنشيط عجلة الصناعة الأوروبيَّة إعتماداً على الخبرات الأمريكيَّة في المجالات الفنيَّة والإداريَّة؛ واعتماداً على الدُّولار كعملةٍ رئيسيَّةٍ للتداول وكملاذٍ آمنٍ للإدِّخارِ وللإستثمار، وبجعله أساساً ومعياراً لقوَّة تدفُّقِ ودوران حركة رأس المال في أوروبا والعالم؛ وبذلك تحصَّلت الولايات المتحدة على سيادة الدُّولار كعملةٍ للإستثمارِ والتداول بلا منازع تقريباً؛ وتحصَّلت بفعلِ ذلك على تنصيب- إمبراطوريَّة الدُّولار على العالم- كقوَّة إمبراطوريَّة ناعمة تدعمها قوى الإمبراطوريَّة الأمريكيَّة الإستراتيجيَّة الخَشِنة؛ ومِمَّا أتاح لها فيما بعد أنْ تُلْحِقَ الإقتصاد الأوروبي باقتصادها لعقودٍ طويلةٍ من الزَّمن.
لقد استثمرت أمريكا في مشروع مارشال حوالي 13 مليار دولار لكنَّ عوائد ذلك الإستثمار تجاوزت المئة مليار في بضعِ سنواتٍ بعد تاريخ عام 1947م وحتَّى منتصف الخمسينات؛ ولقد ساعدها ذلك المشروع على التَّخلُّص من آثار مرحلة -الكساد الإقتصادي الكبير- الذي ابتدأ في الولايات المتحدة في عام 1929م وامتد حتى عام 1935م مخلَّفاً آثاراً كبيرة وعميقة على حيوية الإقتصاد الامريكي وعلى مستوى نموّه في أربعينيَّات القرن العشرين.
هكذا إذنْ تمَّت - أمْرِكة أوروبا- وكانت الولايات المتحدة في طريقها - من خلال أمركة أوروبا- الى الهيمنة والإستحواذ على نصف ثروات العالم. منذ انطلاق مشروع مارشال مروراً بوثيقة تأسيس حلف النَّاتو فاتفاقيَّة ماستريخت؛ وصولاً الى عصرِ العولمة مطلع تسعينيات القرن العشرين.
كتبَ هنري كيسنجر عام 2002م – في الفصل الثاني من كتابه ( هل تحتاج أمريكا الى سياسة خارجيَّة ؟ ). وتحت عنوان: " أمريكا وأوروبا- تحوُّل العلاقات الأطلسيَّة- " : ( إنَّ الإنحراف في العلاقات الأطلسيَّة لا تسببه سياسات معيَّنة لقادةٍ فرديين؛ لكن هذه السياسات تعكسُ أربعةَ تغيُّراتٍ أساسيَّة في العلاقة التقليديَّة: 1- تفكك الإتحاد السوفييتي. 2- توحيد ألمانيا. 3- الإتِّجاه المتنامي للتعامل مع السِّياسة الخارجيَّة، كأداةٍ للسِّياسة المحلِّيَّة. 4- تَبَرْعُم الهويَّة الاوروبيَّة. فمنذ دخول أمريكا الحرب العالميَّة الأولى عام 1917م، وسياستها ترتكزُ على الإعترافِ بانَّهُ من مصلحتها الجيوسياسيَّة الحؤولُ دون سيطرة قوَّة معادية محلية على أوروبا. وللدفاعِ عن تلك المصلحة؛ تخلَّت الولايات المتحدة عن عزلتها التقليديَّة بعد الحرب العالمية الثانية؛ ودخلت في صراعٍ طويل مع الإتحاد السوفييتي. حيَّتْ أوروبا أمريكا في المناسبتينِ؛ حتَّى عندما أزعجت الحماسة التبشيريَّة- والميل نحو معادلة السياسة الخارجيَّة بالتَّحَسُّن الأخلاقي- القادةَ الَّذين علَّمَهُم التاريخ الوطني فضيلة الطموحات الأقل محدودية. وقد أوجد الشعور بأنَّ التهديد السوفييتي لا يمكنُ موجهته إلَّا بجهدٍ مشترك لدول الأطلسي وبتسخير المصالح القوميَّة لصالح الفائدة المشتركة؛ تركيبة التحالف الموجودة – التي ربما كانت الأعظم تأثيراً في التَّاريخ.
خلال تلك العمليَّة؛ تطوَّر ميلٌ لدى جانبي الأطْلَسي تخطَّى الإطار التقليدي للدفاع المشترك: فقد اعتبر أعضاء التحالف أنفُسَهُم بانَّهم ينتمون الى مجتمعٍ فريد وخاص من القِيَم؛ لا مجرَّد مجموعة من المصالح المشتركة؛ غير أنَّ زوال الإتحاد السوفييتي أعادَ إحياء الانماط الدبلوماسيَّة القوميَّة التقليديَّة والسِّياسات المحلِّيَّة ). الى هنا كلام هنري كيسنجر. / المصدر: هل تحتاج أمريكا الى سياسة خارجيَّة، لهنري كيسنجر/ النَّاشر دار الكتاب العربي- بيروت 2002م.
ربما يُفَسِّرُ كلامُ (هنري كيسنجر ) حول إعادة إحياء الأنماط الدبلوماسيَّة القوميَّة التقليديَّة والسياسات المحليّة لدى أعضاء حلف شمال الأطلسي؛ مع زوال التهديد الذي كان يمثله الإتحاد السوفييتي؛ السلوك الأمريكي الذي تعمَّد الدُّخول في أكثر من حربٍ بعد تلك المرحلة للإبقاءِ على تبرير أهميَّة وديمومة منظومة الأمن الإستراتيجي الامريكي من خلال حلف شمال الاطلسي؛ تحت العنوان ذاته – حق الدِّفاع الشرعي عن المجال الحيوي الكبير للحلف- ومنها على سبيل المثال حربي العراق والحرب في أفغانستان والتدخل في الصومال والحرب في يوغسلافيا وجورجيا مطلع الالفية الجديدة؛ ومنها الضربات الإستعراضيَّة التي تجري الآن تحت عنوان مواجهة خطر (إرهاب داعش) على سبيل المثال.
ولدى تناول كلام (هنري كيسنجر) حول الميل لدى القادة- يقصد قادة حلف الأطلسي- نحو معادلة السياسات الخارجيَّة بالتَّحَسُّن الأخلاقي- ولنرى كيف أنَّ الولايات المتحدة قد تنبَّهت لذلك منذ أمدٍ بعيد وقد رسمت سياساتها وخططها على أساس فهمٍ خاصٍّ بها في هذا المجال- يمكنُ لنا أنْ نتناول الوثيقة التالية؛ المقدّمة كمذكرة سياسيَّة لمجلس الأمن القومي الأمريكي؛ قُبَيْل الحرب الكوريَّة عام 1950؛ فقد جاء في هذه المذكَّرة المحرَّرة من قبَلِ ( بول نيتز ) الذي خَلُفَ ( جورج كينان ) في رئاسة إدارة الدَّولة لفريق التخطيط التابع للإدارة الأمريكيَّة؛ ما يلي : ( نحنُ نملك 50% من ثروة العالم، غير أنَّنا نُمثِّل 6.3% من سكَّانه فقط؛ وفي مثل هذا الوضع لا يُمْكِنُ تجنُّب أنْ نكون هدفاً للضغينَةِ والغيرة. فمهمَّتنا الحقيقيَّة، في الفترة القادمة، هي: تطوير نظام لعلاقاتِ يسمَحُ لنا بالحفاظِ على هذه المكانة؛ دون تعريض أمننا القومي للخطر. ولتحقيق هذا؛ علينا أنْ نتَخَلَّص من أيِّ رومانطيقيَّة، وأنْ نَكُفَّ عن الحُلُم، مع بقائنا مُتَيَقِّظين. ويتعيَّنُ أنْ يكون تركيزنا منصبَّاً على أهدافنا القوميَّة المباشرة والفوريَّة، وألَّا يُصيبنا الغرور. ولا يمكنُ أنْ نسمحَ لأنْفِسِنا اليوم باتِّباعِ رفاهيَّةِ حبّ الْغَيْر والخيْر على الصَّعيد العالمي. وينبغي أنْ نتوقَّف عن الحديثِ عن أهدافٍ كبيرة- غير محددة- فيما يخص الشرق الأقصى - فيما هي غير قابلة للتفيذ – وكذلك فيما يخص حقوق الإنسان، ورفع مستوى المعيشة، وإرساءِ الدِّيموقراطيَّة. ولن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي سيكون علينا فيه استخدام القوَّة ). المصدر/ دراسات سياسة التخطيط فبراير 1948م/ أمريكا طليعة الإنحطاط، لروجيه جارودي/ الفصل الثالث/ منشورات دار الشروق- القاهرة.
وقد قدَّم ( بول نيتز ) في خطَّة " الصُّقور " تعريفاً أكثر وضوحاً لتحديدِ الأهداف وتعيينها بقوله ( إنَّ الولايات المتَّحدة تملك لا شكّ قوَّةً عالميَّة، لذلك؛ وجبَ نَصْب عدو شامل- في إشارةٍ واضحة للإتحاد السوفييتي- وتحويله الى شيطان بطريقةٍ تبرر أيَّ تدخُّلٍ أو إعتداءٍ من قبل الولايات المتَّحدة؛ وباعتباره ردَّ فعلٍ دفاعيَّاً لتهديدٍ شامل تعرَّضت له مُسبَقاً؛ دفع بها لاتِّخاذ مثل هذا الإجراء ). وقد أضحت - إمبراطوريَّة الشَّر- منذ ذلك الوقت مُمَثَّلة بالإتِّحاد السُّوفييتي؛ فلم تكن كوريا أو فيتنام- مثلاً- دولتين غازيتين للولايات المتَّحدة؛ بل كانت الولايات المتَّحدة هي الغازية. وعلى بعد أكثر من عشرة آلاف كيلو متر من حدودها؛ أعلَنَتْ الولايات المتَّحدة أنَّها في حالة دفاعٍ شرعي !!.
كَتَبَ " جاديس " في " السلام الطَّويل " من منشورات أكسفورد عام 1987م: ( إنَّ أمن الولايات المتَّحدة كان في خطر؛ ليس فقط منذ 1950- تارخ الحرب الكوريَّة- ولكن منذ عام 1917م؛ وقد كان تدخُّلها في كوريا دفاعيَّاً ضد التغيير الذي نشأ في النِّظام الإجتماعي في روسيا ) يقصد - ثورة أكتوبرالبلشفية في روسيا عام 1917م.
ولهذا كتب السيناتور " وارين هاردينج " -الَّذي تمَّ انتخابه بعد ذلك ليصبح رئيساً للولايات المتحدة: ( البلشفيَّة تهديدٌ يجب أنْ يُسحَق؛ الوحشُ البلشفي يجبُ القضاء عليه ). وقد اعتبر -هاردينج - مجرَّد وجود الإتِّحاد السوفييتي بحدِّ ذاته إعتداء؛ ومن حقِّ الولايات المتحدة الدِّفاع عن نفسها في أيِّ مكان على سطح الكوكب. الى هنا -المصدر السابق.
وعلى ضوءِ ما سلف؛ لنا أنْ نتأمَّل هذا العنوان الزَّائف الَّذي تمَّ إعلانه واختياره كعنوانٍ ومبدءٍ " مُحرِّكٍ للحرب الباردة " – كما أشرنا في الجزء الأول من هذا المقال- فقد تمَّ تحديد أهداف الحرب الباردة - بوضوح – في الخطاب السياسي لمجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1968م؛ كما يلي:
( إنَّ الصِّراع بين قوى النُّور وقوى الظَّلام لا يُهَدِّدُ دولتنا فقط؛ وإنَّما أيضاً الحضارة ذاتها. والهجمة على مؤسسات العالم الحر أصبحت عالميَّة؛ ويفرِضُ علينا إعتراضها لمصالحنا الخاصَّة مسؤوليَّةَ أنْ نمارس - القيادة العالميَّة ). - المصدر السَّابق.
في هذه البيئة وضمن هذه المباديء والعناوين الزَّائفة دأبت الولايات المتِّحدة في إثارة المشاكل والتَّدخُّل في محيط الإتحاد السوفييتي وفي أمريكا الَّلاتينيَّة؛ وفي الشرق الأقصى والشرق الأوسط؛ وفي هذا السِّياق تمَّ تهديد دول أمريكا الَّلاتينيَّة وغزو بنما عام 1989م؛ وفي هذا السِّياق تمَّ دعم حركات الجهاد الأفغاني كردٍّ على تدخل الإتحاد السوفييتي هناك؛ واستمرَّت أمريكا في اللعب في فناء روسيا بعد تفكك الإتحاد السوفييتي، كما جرى في يوغسلافيا وجورجيا وما يجري الآن في أوكرانيا.
دعمت الولايات المتحدة المجاهدين الأفغان نهاية سبعينيات القرن العشرين؛ وساعدت ورعت رَفدَهُم - بالمجاهدين – العرب وغيرهم؛ بكلِّ ما تيسَّر لها؛ بدعوى الدِّفاع عن استقلال أفغانستان ومواجهة الإلحاد والشيوعيَّة؛ وقد كانت الحرب هناك أحد أهم العوامل التي أسهمت بإضعاف الإتحاد السوفييتي. لكن بعد انسحابه من هناك عمدت الولايات المتحدة الى إذكاء نار الخلاف بين فصائل - المجاهدين – بما كانت تملك هناك من نفوذٍ واضح؛ مباشرة ومن خلال الباكستان؛ ثمَّ أضعفت خِطَطُها الجميع لصالح حركة ( طالبان ) التي تحالفت مع تنظيم القاعدة ؛ ومن نافل القول كيف أنَّ سلوك تنظيم القاعدة قد أدَّى فيما بعد الى استكمال خطط أمريكا التي كانت تستهدف إيجاد موطء قدمٍ لها في آسيا الوسطى؛ وقد تمَّ لها ذلك باحتلالها لإفغانستان، تحت عنوان – مكافحة الإرهاب.
ولقد كان مثال الحرب على العراق مثالاً صارخاً على زيف المباديء المحرِّكة للحروب الأمريكيَّة؛ فقد جرى تدمير العراق واحتلاله تحت دعاوى امتلاكه لأسلحةِ الدَّمار الشَّامل – وهي الدَّعاوى التي سقطت سقوطاً مدوِّياً بشهادة العالم أجمع؛ وقد جرى قصف العراق في الحرب الأولى عام 1991 بدعوى الدِّفاع عن القانون الدَّولي؛ وقد استخدمت الولايات المتحدة تلك الذريعة لتجعل من مؤسسات الأمم المتحدة وكأنَّها أحد مرافق وملحقات الأفنية الخلفيَّة لوزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة؛ وجعلت من ذلك مدخلاً لفرض سيادة النِّظام الدَّولي الجديد؛ الذي أدخل العالم أجمع في بيت الطَّاعة الأمريكيَّة قرابة عقدين من الزَّمن؛ ونقلها من مفهوم الزَّعامة في العالم الى مفهوم قيادة العالم- كما شاءَ كثيرٌ من مخططي الإستراتيجيَّة الأمريكيَّة مع نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين.
بالإجمال: فيما كانت الحرب الكورية والفيتنامية مطلع الخمسينيات تستهدف حصار نفوذ الإتحاد السوفييتي في الشرق الأقصى؛ وتستهدف فرملة الصين وكبح جماحها؛ والحؤول دون قيام تحالف إستراتيجي بينها وبين روسيا؛ وتصفية نفوذ القوى الأوروبيَّة التقليدي القديم هناك لصالحها؛ فقد اتَّخذت عنوان مواجهة الشيوعيَّة.
وفيما كانت كل تدخُّلاتها في أمريكا الَّلاتينيَّة تستهدف تصفية أي نزعة إستقلاليَّة هناك يمكنُ أنْ تحرمها من الإمتيازات التي حصلت عليها منذ البدء بتنفيذ مبدأ ( جيمس مونرو ) - المُشار إليه سابقاً في الجزئين الأول والثاني من المقال – كانت تلك التدخلات والحروب تتخذُ عناوين حماية القارَّة من الإستغلال، وحمايتها من الوقوع ضحيَّةً للشيوعيَّة. وقد وصِفَ أيّ زعيمٍ أمريكي لاتيني – بالشُّيوعي – لمُجرَّد مطالبته بحقوق بلاده في ثرواتها؛ تلك الثروات التي نهبتها الشركات الامريكيَّة؛ منذ نهايات القرن التاسع عشر !!.
وفيما كانت الولايات المتحدة تعتدي على القانون الدولي في حروبها على العراق؛ وصفت ذلك بأنَّهُ دفاعٌ عن القانون الدَّولي. وفيما شنَّت حربها على أفغانستان تحت عنوان مكافحة الإرهاب فإنَّها كانت تُوَفِّرُ بسلوكها الهادف بيئةً خصبةً لتوليد ونمو مُختلف أشكال الإرهاب؛ الَّذي يضرب سوريا والعراق والمنطقة بعنفٍ شديدٍ الآن. وبعدما مارست كل أشكال السياسات السلبية حيال تلك الظاهرة من خلال تدخلها في الشأنين السوري والعراقي؛ ها هي تأتي اليوم للتَّدَخُّل المباشر ولتكريس منطق الهيمنة وللحؤول دون تبلور مشهد دولي جديد؛ بضرباتٍ إستعراضيَّة ( لداعش ) الهدف منها خلطُ الأوراق في المنطقة من جديد.