السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

" شرارة " السؤال في الفكر السياسي بقلم: محمود الفطافطة

2014-10-03 10:12:51 AM
صورة ارشيفية

رحيق الفكر

تُعتبر الأفكار السياسية لأي مفكر بمثابة المرآة التي تعكس الظروف التي عاشها والمؤسسات السياسية التي عاصرها. فهذه الأفكار هي نتاج عقل الفيلسوف السياسي أو المفكر السياسي، وهي في الحقيقة نتاج لتفاعل عقله مع مجتمعه ومع الحياة السياسية التي يعيش فيها. وبما أن الكون يقوم على أسئلة تحتاج إجابات فإن الفكر السياسي ومنذ عهد الإغريق بدأ بطرح الأسئلة السياسية الكبرى، وما زال منشغلاً بها حتى الآن .

 هذه الأسئلة التي تُشغل بال الجميع، حكام ومحكومين، علماء ومفكرين كانت، ولا تزال الدافع الرئيس للمفكرين السياسيين على مر العصور في أن يقتحموا ميدان هذا الفكر ليصلوا إلى إجابات لحزمةٍ كبيرة من الأسئلة التي تزاحم عقول وهموم وآمال البشرية جمعاء.

أبرز هذه الأسئلة: ما الذي نبحث عنه في الحياة ؟ وما الذي نسعى لمعرفته عن الإنسان؟ وهل يمكن أن نصل إلى معرفة الحقيقة؟ وكيف نصل إليها ؟ وما هو النهج الصحيح لتحقيق سعادة البشرية ؟ ثم ما هي معايير ومقاييس السعادة والعدالة والحرية والفضيلة ؟ وكيف ينبغي أن تكون عليه العلاقة الصحيحة والمتوازنة بين الإنسان ومجتمعه ومع من حوله؟  ومن الذي ينبغي أن يتولى السلطة والحكم؟ وكيف يمكن للدولة أن تساهم في تعزيز حرية الإنسان ومتى ينبغي أن تتدخل من أجل أن تقنن وتضبط وتحد من هذه الحرية؟  وما هي المسؤوليات والواجبات والمبادئ العامة  في الحياة ؟ ومن المسؤول عن تحديدها؟ وكيف نصل إلى الغايات النبيلة؟، وهل هي غايات ثابتة أم متغيرة؟ وما الذي ينبغي أن نقوم به من أجل تحقيق هذه الغايات؟ .

هذه الأسئلة وغيرها تشكل مادة الفكر السياسي . فالفكر السياسي يبدأ بهذه الأسئلة وينتهي عندها . فهي شغله الشاغل وهي التي تحدد مادته ومقولاته وأهدافه وقضاياه وتعرف به كحقل من حقول علم السياسة، متميز عن الحقول الأخرى.

هذه الأسئلة هي أسئلة أزلية  لكن أجوبتها نسبية، حيث طرحت قبل آلاف السنين وما زالت مطروحة إلى الآن وستطرح خلال المستقبل القريب والبعيد ربما بنفس الصيغة وبنفس القدر من الإلحاح  هذه الأسئلة وغيرها طُرحت في الكتب السياسية الكلاسيكية وفي مؤلفات أفلاطون وأرسطو وميكافيللي وهوبز وروسو وابن خلدون والفارابي والماوردي  وغيرهم من كبار المفكرين عبر كل العصور. كانت هذه الأسئلة شغلهم الشاغل، وكانت إجاباتهم وتوصيفاتهم وتوصياتهم تدور في معظمها حول الهموم والقضايا التي لها علاقة بالوجود الإنساني  والتنظيم الاجتماعي والبناء السياسي الذي ربما تغير كثيراً في المظهر لكنه  ظل على ما هو عليه في الجوهر.

ورغم مرور آلاف السنين، فقد ظلت كتب الفلاسفة والمفكرين السياسيين مصدر الهام إلى اليوم وستبقى إلى الغد. بعض هذه المؤلفات لم يعد مفهوماً ، وبعضها الآخر فقد علاقته بالواقع، والبعض الآخر قابل للجدل والنقاش ويمكن الاتفاق معه أو رفضه ، لكن المؤكد أن معظم، إن لم يكن، جميع هذه التصورات والاقتراحات والإجابات ما زالت ملهمة ومحفزة للمزيد من التأمل والتفكير، وتصلح دائماً كخطوط عامة، وكخريطة طريق وبرنامج عمل .

المفكر السياسي هو الذي ينتج الفكر السياسي وهو وحده الذي يملك المعرفة والخبرة والمؤهلات والتقنيات البحثية الضرورية التي تؤهله لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه وبلورة صورة متكاملة له في سياقه التاريخي والإنساني الأشمل . ما يقوم به المفكر السياسي هو أنه يولد الأفكار والنظريات الإيمانية والمثالية والأخلاقية والتأملية وربما أيضاً التطبيقية حول الإنسان والطبيعة والحياة والسياسة وحول مفاهيم كبرى كالحرية والعدالة والمساواة .

فالمفكر السياسي هو في الأساس شخص منشغل بهموم وطنه وقضايا أمته ويسيطر عليه هاجس بوجود خلل عميق وخطأ لا يُحتمل الصبر عليه. فالمفكر بطبعه باحث قلق على محيطه السياسي والاجتماعي ولا يعرف الهدوء ولا الراحة ما دامت الأزمة قائمة والعلة باقية. هذا القلق الايجابي والصحي يدفعه دفعاً نحو التأمل في طبيعة المشكلة والبحث في العلة وتشخيص أعراضها وتفكيك مسبباتها واقتراح ما يجب عمله من أجل تجاوز المأزق السياسي والاجتماعي والحضاري والإنساني الذي يقلقه ويؤرق مجتمعه.

إن الوصفة التي يقدمها المفكر السياسي هي بمثابة الأفكار الخالدة والثمينة والنادرة التي يبحث عنها المجتمع والتي تأخذ شكل النظرية الملهمة والرؤية المحفزة التي بفضلها تعود الأمور إلى طبيعتها وتفتح الطريق للبشرية جمعاء في سعيها الدائم نحو تحقيق الحرية والعدالة والسعادة في الحياة . لكن قبل الوصول إلى هذه الحصيلة المرغوبة لا بد من المرور بسلسلة من الخطوات المترابطة والتي تشكل في مجملها طريقة عمل وتفكير المفكر السياسي.

إن طريقة عمل المفكر السياسي قريبة جداً من طريقة عمل المحقق الجنائي الذي يشعر بوجود جريمة ما وعليه أن يبحث عن المجرم  من خلال جمع أكبر قدر من الاعترافات والأدلة والشواهد والقاطعة التي تحتاج إلى التدقيق والفحص قبل أن يبني المحقق قضيته ويقدمها إلى المحاكمة  . المفكر السياسي يبدأ عمله بالإحساس بوجود مشكلة وربما جريمة بيد أنها ليست بالجريمة الشخصية بل هي جريمة مجتمعية. لقد شعر أفلاطون أن أثينا ارتكبت جريمة لا تغتفر بحق سقراط عندما قررت إعدامه. وكذلك شعر مكيافيللي بالانزعاج من حالة التجزئة والانقسامات السياسية التي اعتبرها بمثابة جريمة بحق ايطاليا.  ولم يكن انزعاج هوبز بأقل من انزعاج مكيافيللي من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي المزمن الذي كان سائداً  في عصره. وهذا أيضاً ما فعله روسو حينما أدرك عمق الغربة التي يعاني منها الإنسان الحديث الذي يعيش في المدن الصناعية الكبرى. ولا شك أن ابن خلدون كان أيضاً منزعجاً من التدهور الواسع في أوضاع الدولة الإسلامية في الأندلس واعتبر ذلك جريمة بحق الإسلام والمسلمين.

دور المفكر السياسي مهم في جميع الأوقات بيد أن دوره الأهم يظل في وقت الأزمات المستعصية. فهو معني أساساً بتسوية المشكلة وحل الأزمة وإصلاح العطب وترميم الخلل وإعادة الأمور إلى طبيعتها والانتقال من الوضع الشاذ وغير الطبيعي إلى الوضع الطبيعي والسليم. فأعظم الأعمال والمؤلفات الفكرية السياسية وأكثرها أصالة وخلوداً برزت في وقت الأزمات السياسية والمجتمعية الحادة. فأفلاطون انشغل بالتردي الأخلاقي والفساد السياسي في أثينا . ومكيافيللي كان مهموماً بالتجزئة السياسية التي أدت إلى تفتيت ايطاليا وخضوعها للهيمنة الخارجية . أما هوبز فقد كان مهموماً بالحروب الأهلية الطاحنة في بريطانيا . كما كان جان جاك روسو مندهشاً لغربة وأنانية الإنسان الحديث عندما ينتقل للحياة في المدن الكبيرة . أما ابن خلدون فقد كان يسعى لفهم أسباب تدهور الدولة الإسلامية في الأندلس وانهيار الحضارة الإسلامية لدى العرب والعجم في المشرق والمغرب العربي.

والسؤال الذي يطرحه المفكر السياسي هو: ما هي المشكلة؟ وأين يكمن الخلل؟ ولماذا حدث هذا التدهور المريع في الأوضاع السياسية والاجتماعية؟ وما علاقة كل ذلك بالعدالة والحرية وممارسة السياسة وبالطبيعة الإنسانية وبكيفية تنظيم المجتمعات البشرية ؟.

إن ما يطرحه المفكر السياسي في الخطوة النهائية هو رؤيته الخاصة لما ينبغي أن يكون عليه شكل الواقع الجديد وما الذي ينبغي عمله للوصول إلى هذا الواقع في المستقبل. بلورة الرؤية واقتراح خريطة الطريق هي الخطوة الجوهرية والجامعة للخطوات الأخرى بل هي الخطوة التي يتركها المفكر السياسي للتاريخ وربما يدخل من خلالها تاريخ الفكر السياسي. لقد دخل كل من سقراط  وأفلاطون إلى التاريخ الفكري والفلسفي والإنساني من أوسع أبوابه وجاء بعدهما أرسطو وميكافيللي وهوبز وروسو ولوك وابن خلدون والفارابي وابن رشد وهيغل  وماركس  وعدد كبير من المفكرين الذين أسهموا في إغناء الفكر الإنساني وتجديد طاقاته خلال ألـ 2500 سنة من عمر هذا الحقل المعرفي الواسع.