في الثالث عشر من آب الماضي، حلت الذكرى الستون لرحيل المربي الأديب خليل السكاكيني، ابن القدس. رحل السكاكيني بعد النكبة الفلسطينية الكبرى بخمس سنوات، وكان احتلال الجزء الأكبر من فلسطين إلى جانب فجيعته برحيل ابنه سري سببًا من أسباب تكالب الأحزان عليه إلى أن حضرته الوفاة في القاهرة.
كان السكاكيني على صلة بالحركة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها أوائل القرن العشرين، غير بعيد من أنشطتها واجتهاداتها، غير بعيد كذلك من الجمعيات الإسلامية المسيحية التي تشكلت في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية للتصدي للأخطار التي أخذت تتهدد البلاد. لكنه لم يكرس وقته للعمل السياسي اليومي. كانت له آراؤه السياسية ومواقفه الفكرية واجتهاداته في ما يتعلق بواقع البلاد، إلا أنه آثر الذهاب إلى الجهد التأسيسي الذي لا بد منه لكل مجتمع طامح إلى التقدم، ولا بد منه لخلق أجيال متعلمة واعية.
لذلك، راح يكرس كل جهوده انطلاقًا من المدرسة التي عليها أن تعنى بالتلميذ باعتباره كائنًا إنسانيًا جديرًا بالاحترام، وأن تعزز إحساسه بكرامته، وأن تمكنه من أن يكون له رأيه الحر من دون ضغوط أو إكراهات. ولا تتكرس هذه التربية الحديثة التي استقى خليل السكاكيني تفاصيلها من تجاربه العملية في التدريس، ومن دراساته وأسفاره ومن تحصيله الثقافي، إلا بالتعليم الحديث.
ومن هذا المنظور، تأسست مدرسة السكاكيني على احترام التلاميذ، ومنعت العقاب البدني الذي يهدر كرامتهم ويمتهن عقولهم، ورفضت المناهج التلقينية التي تبلد الذهن وترهقه، وشجعت المطالعة الحرة وقراءة الكتب والتزود بشتى الأفكار، واصطفاء الأصلح منها، والأكثر قدرة على إغناء العالم الروحي للإنسان.
ورغم المتاعب التي تتسبب فيها مهنة التعليم، وهو الأمر الذي كان خليل السكاكيني يعبر عنه بين الحين والآخر بأسلوب فكاهي ساخر، فإنه لم يدخر جهدًا لكي ينخرط في هذه المهنة الشريفة، فالتحق بمدارس عدة مدرسًا للغة العربية، ومارس تدريس الدروس الخصوصية لطلاب أجانب وفلسطينيين، وأسس مدرسة ليلية في القدس، قبل تأسيسه للمدرسة الدستورية. وأكثر من التردد على دور العلم والجامعات في هذا البلد العربي أو ذاك، وفي فلسطين كذلك لكي يحاضر في أصول التربية والتعليم، ولكي يبسط رؤيته حول المدرسة الحديثة والمنهاج المدرسي الذي يقترحه بديلاً من المناهج التلقينية القديمة. وقد ألف لهذا الغرض كتابه المدرسي "الجديد في القراءة العربية"، من أربعة أجزاء، ومعها دليلان للمعلم فيهما إرشادات حول كيفية تدريس مواد اللغة العربية، ولم يكتف في كتابه هذا بتعليم الأطفال القراءة والكتابة، بل ضمنه كثيرًا من الأفكار النبيلة التي تغني العقل وتنمي حاسة الجمال وترتقي بالوجدان، من خلال القصص والحكايات والمأثورات التي وردت في الكتاب.
ولكي تجد اجتهاداته طريقها إلى عقول التلاميذ، ومن أجل استكمال الرسالة التي التزمت بها مدرسته الدستورية التي أسسها أوائل القرن العشرين، فقد أسس في العام 1938 مدرسة النهضة التي تخرج فيها طلاب مجدون كان لكثيرين منهم في ما بعد شأن كبير في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
وبالطبع، فإن ما ذكرته ليس كل شيء عن هذا الرائد من رواد التنوير الفلسطينيين والعرب، بل هو جزء يسير من سيرته الغنية، وهو تذكير بما كان له من حضور بارز في القدس، مدينته التي أحبها وأخلص لها طوال حياته.